حينَ تَقوى مَحبة الله خالصةً تَصِير فيه عشقًا وإليه شوقًا. والعشقُ شدّةٌ في الحبِّ، وإخْلاصٌ فِي الوَجد لا يُؤتَاهُما إلاَّ مَنْ كَانَ مِنَ اللهِ فِي مَحَلِّ اللطفِ وَالعِنَايَةِ. وفي هذه العُجالة، يَستَعرضُ شَيخُنَا سيِّدي مُحمَّد الـمُنوّر المدني، أطال الله بَقَاءَه، مَفهومَ عِشق اللهِ، وَدَلائلَهُ وَطُرُقَ تَقْوِيتِهِ.
اللّهمَّ صلِّ وسلّم وَبارك على سيّدنا محمّد وعلى آل سيّدنا محمّد وأَعطه مِن الفَضْل أعلاهُ، ومن الجاه أرقاهُ، ومِنَ القُربِ وَالوَسيلةِ مَا يُحبّه وَيَرضَاهُ.
نستعرض مع أحباب الله في هذه العجالة مفهومَ الحبِّ الإلهي الذي هو من أسْمَى مَقَامات العارفين، ومِن أعلى مَيادين اليقين، التي تَتَسَابَقُ فيها جِيادُ الوَاصلِينَ. وَحَقيقَةُ الحبّ هي مَيلُ الطّبع إلى الشّيء الجالب للسعادة، فإن تأكّدَ ذَلك الميلُ وقَويَ سُمِّيَ عشقًا، فيتقوّى أكثر إلى أن يكون المحبُّ مُلازمًا لِمَحْبُوبه لاَ يُفارقه، يُنفق مَا يَملك لِأَجْلِه.
ومِمَّا وَرَدَ فِي عَلاَمَات صدق الـمُحبّ ثلاث خصال: أن يَختارَ كلامَ حَبيبه على كلام غَيره، وأن يَختارَ مُجالسةَ حَبيبه على مُجالسة غيره، وأن يَختارَ رضَا حَبيبه على رضَا غَيرِه“.
وَحتَّى يتَّضِحَ لنا هذا المفهوم أكثر، لاَ بأسَ من التذكير مثلاً بزُلَيخَاء وشدَّةِ مَحَبَّتها ليوسفَ عليه السّلام ومن ذلكَ أنْ ذَهَبَ مالُها وجَمالُها وكان لها من الجواهر والقلائد وِقْرُ (وزن) سبعين جَملاً أنفقتها كُلَّهَا في مَحبة يوسف عليه السّلام. ويُروى من بينِ طَرائفها أنَّ كلَّ مَن قَال رأيت يوسفَ اليومَ أعطته قلادةً تُغنيه حتَّى لمَ يَبقَ لها شيءٌ. كما كَانت تسمّي كلَّ شيء باسم يوسف فَنَسِيت كلَّ شيءٍ سِواهُ من فرط العشق، وإذا رفعت رأسها إلى السّماء رَأَت اسمَ يوسفَ مكتوبًا عَلَى الكَواكب.
وَقريبٌ من ذلك ما حُكِيَ عنْ مَجنون ليلى الذي قيل لَه ما اسمُك؟ فَقال لَيلى. وقيل له يوما: “هل مَاتَت ليلى؟” قَالَ: “إنَّ لَيلَى فِي قَلبِي لمَ تَمُت، أَنَا لَيلى”. وَمرّ يومًا عَلَى دار ليلى فنظر إلى السّماء فقيل لَه يا مَجنون لا تنظر إلى السّماء ولكن انظر إلى جـدار ليلى لعلّكَ تَــرَاهَا، قَالَ: “أنـا أكتَـفِي بِنَْجمٍ يَقَعُ ظلّه عَلَى دَارِ لَيلَى”.
ولله المثل الأعلى: إنَّمَا هي أمثلة ٌ أوردناهَا لِيُتَبيّنَ أنَّ عشق الله ليسَ لهُ حدٌ فيوصفُ وَلَا مقدارٌ فيعرفُ، وإنَّمَا هو مقامٌ يسبح فيه الواصلون ويتنعّم به العاشقون.
ولعلَّ أفضلَ مَنْ يُمثِّلُ حقيقةَ العشق الإلهي سيدُ الوجود صلى الله عليه وسلم. فهو الذي ناجَى مَحبوبَهُ قائلا: “إنْ لمَ يَكن بكَ غَضَبٌ عَليَّ فلا أبالي“.
ومن أكابر العشاق الذين اتبعوا نَهج العشق، سيدُ الـمُحبّينَ منصور الحلاج رحمه الله تعالى، إذْ يُروى أنّهم حَبَسُوه ثمانيةَ عشرَ يومًا فجاءه الإمام الشّبلي رضي الله عنه فقال يا منصور: “ما المحبّة ؟” قال: “لا تسألنِي اليومَ واسألْنِي غَدًا”، فَلمّا جَاءَ الغدُ أَخرجوه من السّجن ونَصبوا النَّطع لأجلِ قَتْلِه، ومرَّ الشّبلي بين يديه فنادى الحلاجُ :”يا شبلي، الـمَحَبَّة أوّلها حَرْقٌ وآخرها قتلٌ“.
ومِن أكابر العشاق الواصلين أيضًا ذو النّون المصري رحمه الله الذي دَخَلَ المسجدَ الحرامَ فَرَأَى شَابًّا عريانَ مطروحًا مَريضًا، تَحتَ اسطوانةٍ وَلَه أنينٌ مِن قلبٍ حَزينٍ. قال فدنوت منه وسلّمت عليه وقلت من أَنتَ يَا غلامُ ؟ قال أنا غريبٌ عاشقٌ فعلمت عما يقول، قلت وأنا مثلك فبكى وبكيت أنا لبكائه، قال أتبكي أنت؟ فقلت أنا مثلك فبكى بأعلى صوته وصاح صيحة عظيمة عالية فخرجت روحه من ساعته، فطرحت عليه ثوبي وخرجت من عنده لطلب الكفن، فاشتريت الكفن ورجعت إليه فلم أجده مكانه فقلت سبحان الله، فسمعت هاتفا يقول يا ذا النّون إنّ هذا الغريب طلبه الشيطان في الدّنيا فما وجده، وطلبه مالك فلم يره وطلبه رضوان في الجنة فما وَجده، قلت فأين هو؟ قَالَ فَسمعت هاتفًا يقول “فِي مَقْعَدِ صِدقٍ عندَ مَليك مُقْتَدِر” وذلك بسبب محبّته وكثرة طاعته وتعجيل توبته.
ومن ذلك أيضا ما يرويه الغزالي أنَّ بخيلا منافقا حلف على زوجته بالطّلاق أن لا تتصدّق بصدقة. فَجَاء سائل على باب داره وقال: أيا أهل الدّار بحقّ الله ألا أعطيتموني شيئا”، فأعطته المرأة ثلاثة أرغفة فاستقبله المنافق وقال من أعطاك هذه الأرغفة؟ قَالَ أعطوني من الدّار الفلانيّة، فكانت داره فدخل المنافق داره وقال لامرأته ألست قد حلفت عليكِ أن لا تعطي أحدا شيئا؟ فقالت أعطيت لأجل الله عزّ وجلّ فذهب المنافق وأوقد التنور حتى حمي ثم قال قومي فألقي نفسك في التنّور لأجل الله فقامت المرأة وأخذت حللها فقال المنافق دعي الحلل فقالت المرأة الحبيب يتزين لحبيبه وأنا زائرة لحبيبي، ثمّ ألقت نفسها في التنّور فأطبق المنافق عليها رأس التنّور لها ثلاثة أيّام جاء المنافق ففتح عليها رأس التنّور فرأى المرأة سالمة بقدرة الله تعالى فتعجّب الرّجل من تلك الحال فهتف به هاتف يقول أما علمت أن النّار لا تحرق أحبابنا.
ونختم عُجَالَةَ العشق الإلهي بالصّلاة والسّلام على سيّدنا مُحمَّدٍ، طِبّ القلوب ودوائها وعافية الأبدان وشفائها ونور الأبصارِ وَضِيائها. لأنَّ حقيقةَ عشق الله التي وصفناها لا تتحقق إلاَّ بعشق المصطفى صلوات الله عليهِ، فهو باب الله الذي لاَ وُصولَ إلاَّ منه. ومن وسائل تقوية العشق لله ولرسوله كثرة الصلاة والسلام على النَّبي وقد أمرَ الله بِها في محكم تَنْزِيلهِ، وَحَثَّ عَلَيهَا وَجَعَلَهَا من جملة الأذكار التي يُتَقَرَّبُ بِهَا إليه. ومن فضائلها أنّه عليه الصّلاة والسّلام قالَ:”الصّلاة عليَّ نورٌ عَلَى الصّراط، وَمَن صلَّى عليّ يومَ الجمعة ثَمانينَ مرّةً غفر الله له ثمانين عامًا”.
وَيُروى أَنَّ رَجُلاً رَأَى صورةً قبيحة في البادية فَقَالَ مَن أنتِ؟ قَالت: “أَنَا عَملك القبيح”، قَال فَما النّجاة منكِ؟ قَالت: “الصّلاة على النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
وَحُكيَ أنَّ رجلاً كان غافلا عن الصّلاة على سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فرأى النّبي صلّى الله عليه وسلّم ليلةً في المنام ولم يلتفت إليه فقال يا رسول الله أَأَنتَ عَلَيَّ غضبانُ؟ قال لاَ، قال الرجل: “فلم لا تنظر إليّ؟ قال لأنّي لا أعرفك، قَالَ: “وَكيفَ لاَ تَعرفُنِي وَأَنَا رَجلٌ مِن أُمَّتكَ، وقد روى العلماء أنّك أَعرفُ بأمّتك من الوالدة بالولد؟ قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: “صَدَقُوا ولكنّك بالصّلاة لا تذكرني، وإنّ مَعرفَتِي بِأمَّتِي بِقدر صلاتِهم عَلَيَّ”. ولما انتبهَ الرّجـلُ أَوجب على نفسه أن يصلّي على النّبي صلى الله عليه وسلّم كل يوم مائة مرة ففعل ذلك ثم رآه بعد ذلك في المنام فقال أعرفك الآن وأشفع لك أي لأنه صار محبّا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم.
شُغِفنَا بِمــن أمسى يُمَـشَّى على السّما **** وقد مهدوا خــلف الحجاب له الفرشا
شــهي حديــثٍ مؤنــس لجـليسه****يهش له بالبشر فـــي وجهـه هشا
شعــائـره تقــوى الإله وخشيــة**** فلا غيره أتقــى لربّ ولا أخــشى
وجاء في كتاب الملاذ والاعتصام بالصّلاة على محمّد والسّلام أنّ موسى عليه السّّلام ضرب بعصاه البحر عشر مرات فلم ينفلق البحر فأوحى الله إليه يا موسى صلّ على محمّد فصلّى على محمّد وضربه فانفلق بإذن الله .
وختاما أوحى الله إلى موسى أتريد أن تكون أقرب إليك من كلامك إلى لسانك ومن روحك إلى بدنك ومن نور بصرك إلى عينك وأن لا ينالك عطش يوم القيامة قال فأكثر من الصّلاة على مُحمّد.
فصلواتُ الله وسلامه عليه صلاةً يقوى بِهَا عشقنا في الله ويزداد تعلقّنا بِه حتّى نَنَالَ الدرجات العُلى، دَرَجات الـمُشاهدة والنس والاهتداء.
والسّلام عليكم ورحمة الله
المراجع :
• كتاب مكاشفة القلوب المقّرب إلى حضرة علاّم الغيوب للإمام حجّة الإسلام الغزالي ص 46 و50 إلى ص 60
• نزهة المجالس، ص 365