بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ المدني في مدينة جندوبة ومذاكرة عن التسليم.
نعرض لحضراتكم وثيقة تاريخية نفيسة نادرة تعود إلى سنة51 -1952 تقريبا وهي تصور السياحة (الوحيدة) التي قام بها الشيخ محمد المدني، رضي الله عنه، إلى مدينة جندوبة رفقة جمعٍ من الفقراء. وهذا وصفٌ لها كتبه سيدي محمد تقتق، رحمه الله تعالى برحمته الواسعة.
1. الحَمْدُ لله، رَبِّ الوجود، الحيِّ المعبود، مُوجِب الطاعة والانقياد على عباده المؤمنين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ، دُرَّة الشهود، إمام الشَّريعة والحدود، وقُدوة المُنيبين الخاشعين، وعلى آله وصَحبهِ الموفينَ بالعُهود، العاملين بمأموره قيامًا وقعودًا، ومَن تَبعهم بإحسانٍ إلى يَوم الدِّين.
2. نَحن، مَعشرَ المريدين بصفاقس، ملتفونَ حول مَولانا الأستاذ (الشيخ محمد المدني)، رضي الله عنه، شَيخ الجَمال وقُدوة الكمال، إمامِنا مِصباحِ العِلم ومحيطِ الحَقيقة والإلهام. فَغَشينا من مَرْهَمِ (أي: دواء) شُربِه ما غَمرَ القلوبَ خضوعًا وخُشوعًا، وأهْمَرَ العيونَ زفرةً ودموعًا، غيبةً في جَمالهِ، وحيرةً في جَلالهِ، وذلكَ مما جاد به عَلينا من تَذكيرنا بما يلي:
3. قَال رَضيَ الله عنه : في أثناء زيارة لنا بسوق الأربعاء (هي مدينة جندوبة حاليًا) اقترح عَلينا مُضيفنا فيها (وهو القبطان الأزعر، من الفقراء المدنية العاملين في الجيش)، أن نَترافقَ إلى عين دَراهم(مدينة تونسية)، لِقُربها من سوق الأربعاء (جَندوبة)، ولو مرةً. وبما أنه كان بِصحبته في هذه السياحة ساداتنا الفقراء سيدي المنور والشيخان سيدي إسماعيل الهادفي، وسيدي حسونة الهِنتاتي، وسيدي حَسونة عبد الهادي (والد سيدي الشيخ الطاهر عبد الهادي)، وسيدي الحاج محمد بَخوش، صَار مُضيفُنا المقتَرِح سابعًا (بالإضافة إلى السائق)، أيْ نَفرًا زائدًا على مَحمول السيارة. فتحتَّم إما تَخَلُّف أحد الفقراء عن مُصاحَبَة الجمع، وإمَّا العُدولُ عَمَّا أردناه. وكَم أعجبَني من أخيكم المُريد الصادق المُقَدَّم سيدي الحاج محمد بخوش الطبلبي (نسبة إلى مدينة طبلبة) الرضا بذلك، والبَقاء بسوق الأربعاء (جَندوبة حاليًا) في يوم كان طقسه حارًا، وبَلدة لا يعرف فيها أحدًا، حيثُ بَقيَ، لا رفيقَ مَعه سوى المَلِك الحق، ولا مُسَليَّ له سوى اغتنام فرصة تُرضي شَيخَهُ، ولا أنيسَ له إلا ذكرُ الله في بَيته الذي قصدها في حينه هناك، وبقيَ بها مترقبًا رجوعَنا من عَيْن دَرَاهم (مدينة تونسية).
4. والمشار إليه هنا خوف الشيخ سيدي حسونة الهنتاتي من إثارة نفس أخيه. ذاك الرَّجُل الصادق، من بَقائه بمفرده في بلدةٍ زارها لأول مرةٍ، وتضحيته بزيارة أخرى، يَقصدها الزائرون من جميع أنحاء الإيالة وغيرها ولكننا أقنعناه لحسن ظننا في سيدي الحاج محمد بخوش من أنه، إن شاء الله، من الصادقين الذين وَهَبَهم الله من لدنه ثباتًا ويقينًا وهمةً عاليةً ونفسًا زاكيةً.
5. وفِعْلَتُه هذه يا ساداتُنا تُذَكِّرُنا بواقعة صارت (أي: حَصَلت) لصحابيٍّ في حياة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أذكرها لكم عَلَّنا نَقتبس منها نورًا نهتدي به إلى المقامات العلية ونَتَنَسَّم منها طيبَ رَوائح أصحاب رسول الله، نُجوم الاهتداء، ذَوي النفوس الزكية. وذلك في يوم قال الرسول، عليه السلام لأحد الصحابة : يا فلان! وافِنِي غدًا صُبحًا أبْعَثْكَ وجهًا. وبالغَد صبحًا، حينَ وافاهُ، رَضي الله عنه، حَسَبَ أمره، دَخَل، صلى الله عليه وسلم، دارَه مع سيدنا كعب بن مالكٍ، وأمَرَ ذلك الصحابي بالترقب. فَبادرَ بالطاعة وانحَدَرَ جانبًا مُستسلمًا ظاهرًا وباطنًا، لأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غير مُتسائلٍ عن تَكَتمه، وشدَّةِ احترازِهِ: “ومَن يُطِعِ الرسولَ فقد أطاعَ الله” (النساء:80)، ” عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) ” (الجن:26-27) .
6. ولما تَمَّمَ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع سيدنا كعب بن مالك، خرج وسلم لذلك الصحابي كتابًا بِمصاحبته ثمانية من إخوانه إلى بطن نَخْلَةَ، مسيرة يوميْن على المدينة وهناك يفتح الكتابَ ويعمل بما فيه. فَبادر وإخوانه بطاعة أمر رسول الله، وهَذا شأنهم، رَضيَ الله عنهم: التسليم الكلي والصَّبْر على الطاعة. ولما وصلوا إلى بطن النخلة فتح الكتاب فوجد فيه أمرًا من رسول الله صلى الله عليه و سلم بالتعرض إلى عير قريش. ولَمَّا قَرَأه على رفاقه، أجابُوا كلُّهم بالرِّضا بما أمر به سيدنا محمد عليه السلام، وأظهروا الانقيادَ الكليَّ لأخيهم، صاحبِ الأمر فيهم، وذَهَبوا بما أمِروا وقاموا به أحسنَ قيامٍ وكان النصر والثباتُ حليفَهم، “إنْ تَنصرُوا اللهَ يَنصرْكم ويثبتْ أقدامَكم” (محمد: 7). (القصة في السيرة النبوية- غزوة نخلة: في آخر 29 أو 30 رجب المُرَجَّب، سنة 2 للهجرة).
7. فَافهموا واعتَبِروا وتَذوقوا حلاوَةَ التسليم بارك الله فيكم. وإنِّي لأرجو من الله أن يكون كلُّ فَردٍ فَردٍ، من أهل النسبة مقتديًا بهذه الآداب والأوْصَاف الحميدة المَرضية، بقدر الاستطاعة، واللهُ يُؤَيِّد بِفَضله من يَشاء، وقد قال بَعْضُهم : “مَن قَالَ لشيخه لا، لا يُفلح أبدًا”.
8. ثمَّ التَفَتَ، رضي الله عنه، إلى سيدي حسونة الهنتاتي قائلاً: يا بُنَيَّ، اعلَمْ أنَّ هَذا طريق جدٍّ وصِدقٍ وتَوَجُّهٍ، ووفَاءٍ بعهد الله، ثم تلا قَولَه تعالى : “رِجالٌ صَدَقوا ما عاهَدوا الله عليه” (الأحزاب : 23)، الآية.
9. نَسأل اللهَ تَبارَكَ وتعلى أن يُؤَيِّدَنَا بروحٍ منه، ويَجعَلَنا من المُوفينَ بعُهودهم، والصَّادقين مع الله ورسول الله، والثابتين على مَبْدَأهم، وهو الكَفيل ونعمَ الوكيل. آمين.
من كراسٍ بخَطِّ العارف بالله سيدي محمد تقتق، نَوَّر الله ضريحه بالرحمات الزاكيات وجازاه الله يوم القيامة أعظم الجزاء.
تحقيق: ن. المدني. 26 ديسمبر 2017.