يعدُّ الإمامُ أبو القاسم الـجُنَيْد بن مُحمد أَحَدَ أَبرَزِ وُجُوه التصوّف الإسلامي الأَصيل. تعود جذوره إلى “نَهَاوَندَ” ومَوْلِدُهُ وَمَنْشَؤُه بالعِرَاق. وتُعدُّ حِكَمُهُ وَمَأْثُورَاتُـهُ إحدى أَهَمِّ مَصَادِر الطريقة المدنيّة فَفِيهَا رَسَمَ هَذَا العَالِـمُ مَعَالِمَ الطَّريق وَآدَابَ السَّير وَأَحوَالَ القُلوب. ومِنْهَا نَسْتَمِدُّ تَوجِيهَاتِ السَّيرِ إلَى اللهِ، إذ فِي حِكَمِه مَا يُعِيـنُ المريدَ عَلَى فَهْمِ قَوَاطِع الطَّريق وَسُبَلِ التَّغلّب عَلَيهَا. فَقَد كَانَ الرَّجُل فَقيهًا، تَفقَّهَ عَلى أبي ثَوْرٍ، وَكَانَ يُفتِي فِي حَلْقَتِهِ. وَصَحِبَ السَّريَّ السَّقَطيَّ، وَالحَارِثَ الـمُحَاسِبِيَّ، وَمُحَمَّد بن القصَّاب البَغدادِيَّ، وغَيرهم. وهُمْ مِن أَئمَّة القَوم وَسَادتِهم وَلِذَلكَ فَقدْ جَمَعَ بَينَ أَنْوَارِ الشَّريعَةِ وَرَقَائِق الحقيقة. وإنَّه لَيَسُرَّنَا أنْ نَنْشرَ بفضل الله ومَشِيئَتِهِ نُبَذًا مِنْ أَقواله لِنَسْتَأنسَ بِهَا فِي تَوجُّهِنَا إلَى اللهِ عَزّ وجَلَّ:
1- قَالَ الـجُنَيد: “القُربُ بِالوَجْدِ جَمْعٌ، والغَيبَة بالبَشَريَّة تَفْرِقَةٌ”.
2- وَقَال أيْضاً: “بَابُ كلِّ عِلمٍ نَفِيسٍ جَلِيلٍ بَذلُ المجهود. وَلَيسَ مَنْ طَلَبَ اللهَ بِبَذل الـمَجهُود كَمَن طَلَبَهُ مِنْ طَريق الجُودِ”.
3- وَقَال أيْضاً: “إنَّ اللهَ يَخْلُصُ (يَدخل نورهُ) إلى القُلُوب مِنْ (أي بفضل) بِرَّه، حَسَبَمَا خلُصت القلوبُ به إليه من ذِكْرِهِ، فانْظُر مَاذَا خَالَطَ قَلبَكَ”.
4- وَقَال أيْضاً: “يَا ذَاكرَ الذَّاكرينَ بِمَا بِهِ ذَكَرُوهُ، وَيَا بَادِئَ العَارِفِينَ بِمَا بِهِ عَرَفُوهُ، وَيَا مُوفِّقَ العَابِدينَ لِصَالِح مَا عَمَلُوهُ، مَنْ ذَا الذي يَشْفَعُ إلاَّ بِإذنكَ، وَمَن ذَا الذي يَذكُرُكَ إلاَّ بِفَضْلِكَ”.
5- وَقَال أيْضاً وَقَد سُئلَ مَنِ العَارِفُ؟ فَقَالَ:”مَنْ نَطَقَ عَنِ سِرِّكَ وَأَنتَ سَاكِتٌ”.
6- وَقَال أيْضاً: “مَا أَخَذْنَا التَّصُوَّفَ عَنِ القِيلِ وَالقَالِ، لَكن عَن الجُوعِ وَتَرْكِ الدُّنيَا، وَقَطعِ المألوفَاتِ وَالـمُستَحْسَنَاتِ، لأنَّ التَّصَوُّفَ هُوَ صَفَاءُ
الـمُعَامَلَةِ مَعَ اللهِ تَعَالَى، وَأَصْلُهُ العُزُوفُ عَن الدُّنيَا كَما قَالَ الحَارث (صَحَابِيٌّ جليل): “عَزَفَت نَفسي عن الدنيا فَأَسْهرتُ لَيلِي وَأَظْمَأْتُ نَهَاري”.
7- وَقَال أيْضاً:”إنَّمَا هَذَا الاسمُ – يَعنِي التَّصوّفَ- نَعْتٌ أُقِيمَ العَبدُ فِيهِ. فَقُلتُ :”يَا سَيِّدي (هل هو) نَعتٌ للعبد أم نَعتٌ للحَقِّ؟ فَقَالَ: نَعتٌ للحَقِيقَة وَنَعْتٌ للعَبْدِ رَسْمًا”.
8- وَقَال أيْضاً: “إنَّكَ لَن تَكونَ لَه عَلَى الحَقيقة عبدًا وَشَيءٌ مِمَّا دُونَهَ لَكَ مُستَرَقٌ، وإنَّكَ لَنْ تَصلَ إلَى صَريح الحريّة وَعَليكَ مِن حَقيقة عُبوديّتك بَقيّة، فَإذا كُنتَ لَه وَحدَه عَبدًا كنت مِمَّا دُونَهُ حُرًّا”.
9- ذَكَرَ رَجُلٌ الـمَعرفةَ فَقَال:”أَهلُ الـمَعرفَةِ بالله يَصلونَ إلَى تَركِ الـحَرَكَاتِ مِن بَابِ البِرّ وَالتَقوى إلى الله تعالى. فَقَالَ الجنيد:”إنَّ هَذَا قَولُ قَومٍ تَكَلَّمُوا بإسقاط الأعمالِ وَهذه عندي عَظِيمَة (ذَنبٌ كبير). والذي يَسرق ويَزنى أَحسن حالاً مِنَ الذي يقولُ هَذَا. وإنَّ العَارفينَ بالله أَخَذُوا الأعمالَ عَنِ الله، وإليه رَجَعُوا فيها. وَلَو بَقيتُ ألفَ عامٍ لمَ أُنْقِصْ مِنَ أعمَال البِرِّ ذَرَّةً، إلاَّ أنْ يُحَالَ بِي دُونَهَا، وإنَّهُ لَأَوَكَدُ في مَعرفتِي، وَأَقوى في حَالِي”.
10- سُئلَ الجنيد: “مَنِ العارفُ؟” فَقَال:”مَن لَمْ يَأْسِرهُ لَحْظُهُ وَلاَ لَفْظُهُ”.
11- وَقَال أيْضاً:”الغفْلَة عَن الله تعالى أَشَدُّ مِن دُخُول النَّار”.
12- وَقَال أيْضاً:”إنْ أَمكَنَكَ ألاَّ تَكونَ آلةُ بيتِكَ إلاَّ خَزفًا فَافعل” (كناية عن الزهد لأن الخزف مادة رخيصة).
13- وَقَال أيْضاً:”الطرق كُلُّهَا مَسدودةٌ عَلَى الخَلق، إلاَّ مَن اقتَفَى أَثَرَ الرَّسُول، صَلَّى الله عَليه وَسَلَّمَ، واتَّبَعَ سُنَّتَهُ، وَلَزِمَ طَريقَتَه، فإنَّ طُرُقَ الخيراتِ كُلَّهَا مَفتُوحةٌ عَلَيه”.
14- وَقَال أيْضاً:”ما حَاجةُ العارفين إلاَّ كلاءته (حفظه) ورعايته، قال تعالى :”قُلْ مَن يَكلؤكم بالليل وَالنَّهار مِن الرَّحمَان”.
15- وَقَال أيْضاً:” نَجَاح قَضَاء كل حاجَةٍ من الدنيا تَركُهَا”.
16- وَقَال أيْضاً:”إذَا لَقيتَ الفَقِيرَ فَلاَ تَبْدَأْهُ بالعِلْم، وابْدَأهُ بالرِّفقِ، فإنَّ العلمَ يُوحِشُهُ، والرَّفقَ يُؤنِسُهُ”.
17- وَقَال أيْضاً:” يَا أَبا بَكر إذا وجدتَ مَن يُوَافِقُكَ عَلَى كَلمةٍ مِمَّا تَقول فَتَمَسَّك به”.
18- وَقَال أيْضاً:” لاَ تقُمْ بِمَا عَليكَ حَتَّى تَتْركَ مَالَكَ، (مَا هو حقٌّ لك) ولاَ يَقوى عَلَى ذَلك إلاَّ نَبِيٌ أَوْ صِدِّيقٌ”.
19- قَالَ:”الأُنسُ بالـمَوَاعيد وَالتعويلُ عَليها خَلَلٌ فِي الشَّجَاعَة”.
20- وَقَال أيْضاً:”الوَقتُ إذا فَاتَ لاَ يُستَدْرَكُ. ولَيسَ شَيءٌ أعزُّ مِن الوَقت”.
21- وَقَال أيْضاً:” فَتحُ كلِّ بابٍ شَريفٍ بَذلُ الـمَجْهُودِ”.
22- وَقَال أيْضاً:”لَو أَقبل صَادقٌ عَلَى اللهِ أَلفَ أَلفِ سَنةٍ ثُمَّ أَعرَضَ عَنهُ لَحظةً، كَانَ مَا فَاتَه أكثرَ مِمَّا نَالَه”.
23- وَقَال أيْضاً:” أَكثرُ النَّاسِ عِلمًا بالآفَاتِ (عَلَى سَبيل الغَيبة والانتقاد) أَكْثُرُهُم آفاتٍ”.
24- وَقَال أيْضاً لرجُلٍ سَألَه:”مَن أَصحَبُ؟”. فَقَال:”مَن تَقدر أنْ تُطلعه على مَا يَعلَمُه اللهُ عَنْكَ”.
25- وَقَال أيْضاً لرجل سَأَله :”مَن أَصحَبُ؟ فَقَالَ:”مَن يَقدِر أَنْ يَنْسَى مَا لَهُ، وَيَقضِيَ مَا عَلَيه”.
26- وَقَال أيْضاً:” الـحَيَاء مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَزَالَ عن قلوب أَوليائه سُرورَ الـمِنَّة”.
27- وَقَال أيْضاً:”مَنْ نَظَرَ إلى وَلِيٍّ مِن أَولياءِ اللهِ تَعَالَى فَقَبَّلَهُ وَأكرمَهُ، أكرَمَهُ الله عَلى رُؤوس الأَشهاد”.
28- وَقَال أيْضاً:”الرّضَا ثَانِيَ دَرَجَات المعرفة، فَمَن رَضِيَ صَحَّتْ مَعرفَتُه بالله بِدَوَام رضاه عنهُ”.
نسال اللهَ العليَّ الأَعلى أن يَنفَعَنَا بِهذه الحِكم الباهرة وأن يُعينَنَا على العمل بما فيها من الأسرار الفاخرة بِجاه سيدنا محمد صلى الله عليهِ صاحبِ الأَخلاق الطاهرة. آمين.
المصدر: طبقات الصوفية، لعبد الرحمان السُّلَمِي.
اختيار وضبط الزاوية المدنية .