1. لا يَخْفَى أنَّه، عمَّا قَريبٍ، يَتَأهَّبُ الـمُسلِمونَ لِشهرِ رَمضَانَ، تأهبًّا يَحُفُّهُ شكرٌ ربَّانيٌّ واعتِزازٌ نَفسانيٌّ، لأنَّ في مِثْلِهِ، مِن سَنةِ ثَلاثَ عَشْرةَ، قبلَ الهجرة، بَعَثَ الله محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى النَّاسِ كافَّةً، مُرشِدًا وهَادِيًا “ودَاعِيًا إلى الله بِإِذْنهِ وسِرَاجًا مُنيرًا“، وابتَدَأَ فيه بِنُزولِ القرآن.
2. اختارَ اللهُ مثلَ هذا الشَّهْر، في تلكَ السَّنَة، لانبثاقِ ذَلكَ النور المبين، وحُدوثِ الحَادث الجَليل الذي (أصْلَحَ) النِّظَامَ الاجتماعيَّ والتَّفكير. فَقَدَّر لَه بذلك فَضلاً عَلِمَهُ وأرَادَهُ وادَّخَرَهُ إلى أنْ رَبطَ بِه ذِكرَى جَليلَةً للمسلمين في السَّنَةِ الثانية للهجرة، حينَ بَدَأَ استقلالُ الـمُسلمينَ بمَدينتهم وجَمَاعَتهم، وتَخَلَّصُوا من اضْطِهاد المشركين وشَغَبِهِمْ.
3. ذلكَ بِأن شَرَعَ لَهم، في ذلك الشَّهْر، فَريضةً الصَّومِ، كلَّ عَامٍ، عبادةً يَرتَقون بها عَن حَضيض عالَمِ الـمَادَّة إلى جانب أوْجِ العَالَمِ الرُّوحاني. فَجَعَل الصومَ وسيلةً للارتياض بِالأخْلاَقِ الـمَلَكيَّةِ والتَّهذيب من الكُدورات الجسمانية. ونَبَّهَ على ذلكَ بِأَنْ أعقَبَ آيَةَ فَرضِ الصِّيام بقوله تَعالى: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ” (البقرة: 185)، يُشيرُ إلى مُنَاسَبَةِ تَعْيينِ هَذَا الشهر لإيقَاع هَذِهِ العِبَادَة.
4. إنَّ عِدادَ الصَّومِ في قَواعدِ الإسلام، وما فيه منَ الحِكمَة الرَّاجِعَةِ إلى تَزكيَة النَّفس وتَهذيبِ طُغْيانِ القُوَى الجُثمانيَّة عليها أمرٌ مُقَرَّرٌ، لا يُنكَرُ. فَلَسنَا بحاجةٍ إلى زِيادَةِ تَذكير المسلمين به. بَل الأمرُ الذي هو شديدُ الحَاجَةِ إلى التَّذكير به والتَّنبيهِ عَلَيْهِ، هو إرْشَادُ الكَثيرِ مِنهم إلى الأحْوال التي يَكون بها الصَّومُ جَاريًا عَلَى الـمَقْصَدِ الشَّرعيِّ مِنه، ومِن قِيَامِ الـمُسْلم به.
5. الصِّيامُ عِبَادةٌ شُرِعَتْ لِمَقاصدَ ساميةٍ وحِكَمٍ عَالِيَةٍ، هي مِن قَبيلِ الحِكمَةِ العَمَليَّة لِريَاضَةِ النَّفْسِ عَلَى استذْلالِ المَصَاعِبِ، والتَّصَبُّرِ عَلى التَّخَلُّق بالأخْلَاق المَلَكيَّة. وقِوامُهُ الإمساكُ عَن الشَّهَوات المُلازِمَة لِما في الهَيْكَل الجِسْمَانيِّ مِنَ المَادَّة التي تَغينُ عَلى تَجَرُّدِ الرُّوح. فَالقَصْدُ مِنهُ إضعافُ القُوَى الماديَّةِ، لتَنبَثقَ من مَنافِذِهَا أشَعَّةُ النَّيِّر الرُّوحانيّ.
6. ولِـمَا في هذا الإمساكِ مِنَ الـمَشَقَّة في مُجاهدة تلكَ القُوى الطاغية، اقتَنَعَت الشَّريعة بالمقدارِ الذي لا يَخلو عنه قيامُ مَاهِيةِ هذه العبادَة، فَجَعَلَت ما يَعرِض للصائم من مَشَقَّةٍ زائدةٍ عُذْرًا يُخَوِّل الترخيصَ في ترك تلك العبادة، مادَامت المَشَقَّةُ العَارضَةُ مُقَارِنَةً لَها، لِيَأتيَ المسلم بعبادته شارهًا نَشيطًا، غَيْرَ مَلولٍ مِن تَوَفُّر المَشَاقِّ عَليه. وقَد أشَارَ إلى ذَلكَ قولُه، تعالى، في آية فَرْضِ الصِّيَام :” وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ” (البقرة: 185).
7. والمُعتَبر مِن المـَشاقّ التي تُسقط العبادَةَ ليسَ أقصى ما يَصْدُقُ عَليْه اسمُ المَشقَّة. فإنَّ المَشاقَّ قَسَّمها العلماءُ إلى ثَلاثَة أقْسَامٍ :
– قِسمٌ في الرُّتْبَةِ القُصْوَى مِن المَشَقَّة.
– وقسمٌ في الرُّتبَة الدُّنْيا، كأدنى وَجَعٍ في إصْبَعٍ.
– وقِسمٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْن هَذَيْن.
8. وقَدَ وَرَدَ في الشَّريعَة تَعيين مشاقَّ مُسقطةٍ للصَّوْمِ. فَمَا لَم يَرِد الشَّرْعُ بتحديدِهِ يَجب على الفَقيه أن يَفحَصَ عن أدنى المشاق الثابتة بدليلٍ شرعيٍّ، ثم يَنظرَ فيما لَمْ يُحَدِّدْهُ الشَّرْعُ، فَيُلحِقُه بِقِسمه المُمَاثل لَه.
9. والقاعدة الأصوليَّة تَقول: “المَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيسير“. واللهُ تَعالى أنْبَأنا، حينَ شرَعَ الصَّوْمَ، بِأنَّه يُريدُ بِنَا اليُسرَ، وَأكَّدَه بقوله: “وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ” (البقرة: 185) .
10. والتَّيسير هو التَّرخيص أيْ: تَغييرُ الحُكم الشَّرْعيِّ مِن صُعَوبَةٍ إلى سُهولَةٍ لعُذْرٍ، مَعَ قِيام السَّبَب للحُكْمِ الأصْلي، فَتَأتي عَلَيه الرخصةُ فتنقلَهُ إلى السُّهولَة. ومعلومٌ أنَّ الصُّعوبَة هي الوجوب أو التحريم وأنَّ السُّهولَة هي الإبَاحَةُ. والـمُخْتَارُ مِن أقْوَالِ الأصُولِيّينَ جَرَيَانُ القِيَاسِ على الرُّخَص، وهو قَولُ الإمامِ مَالِكٍ والجُمهورِ.
شكل وتحقيق: ن. المدني، غَفر الله له. 22 أفريل 2020.