حسن الاستماع للسماع من سلوك الطّريق

Home شعائر التصوف حسن الاستماع للسماع من سلوك الطّريق

اللهمَّ صَلِّ وسلّم وبارك على سيدنا ونبيّنا وحبيبنا محمدٍ، مَن تَنوّرت الأكوان بظهوره، ومَنْ بذكرى ميلاده كلَّ عام يتولّد في قلوب المؤمنين حُبّه وتعظيمه ونُوره، وتوالت على النّاس عامّة وعلى عباد الله خاصّة تَباشيره.

نَحمد الله تعالى على هذا الفضل والتّكريم، حَيث يسّر لنا الحضورَ في هذا الحفل العظيم، حَفلِ المَولد النّبوي الشريف الذّي دأبت على إقامتِه، مُنذُ عُقودٍ، زَاويِتُنَا المَعمورةُ، فَهي بفضل الله عامرة وبرحمته مَغمورة، أُسّست من أوّل يومٍ عَلَى التّقوى والعلوم الشّرعية والمعارف الربَّانيّة، وهدايةِ الخلق إلى سلوك هذا الطّريق، طَريقِ التّصوّف، نسأل الله تعالى أن يديمَها مَنارَ هدايَةٍ للسّائلين والمَحرومين، إلى أنْ يَرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عَليها وهو خيرُ الوارثين.

1-سَمْعُ الرّسول، صَلّى الله عليه وسلّم:

مِن خصائص الرّسول الأعظم، صلّى الله عليه وسلّم، سَمْعُه الذّي يَسمع به، فسمعه خاصّ به وليس كَسمع سائر البشر. جاءَ عَن أبي ذرٍّ، رَضيَ الله عنه، أنَّ النَّبيَ، صلّى الله عليه وسلّم، قال:”[vert]إنِّي أَرَى مَا لاَ تَرونَ وَأسْمَعُ مَا لاَ تَسْمَعونَ. أُطَّتِ السّماءُ، وَحُقَّ لَها أَن تَئِطَّ، لَيسَ فيها مَوضِع أَرْبَعِ أَصابِعَ، إلاّ وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبهَتَه لِله تَعالَى[/vert]”، رواه التّرمذي.

وروى أبو نعيم عن حكيم بن حزام:[vert] بَينَما رَسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أصحابه إذ قالَ لَهم: تَسمَعون مَا أَسمَعُ؟ قَالوا مَا نَسمَعُ[/vert].

[vert]قال: إنّي لَأسمَعُ أطيطَ السَّماء، ومَا تُلامُ أَنْ تَئِطَّ، مَا فيها موضع شِبْر إلاّ وعليه مَلَكٌ سَاجِدٌ أو قَائمٌ،[/vert]
(والأطيط هو الصّوت).

ويُؤيِّدُ سماعَ النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، سَلامُ مَن يُسلّم عليه منْ بعيد وقريب، ومن ذلكَ مَشروعيّةُ السّلام عَلَيه في التّشهّد في الصّلاة بصيغة الخِطاب إذ يقول المصلّي: “[vert]السَّلامُ عَليكَ أيّها النبيّ ورحمةُ الله وبَركَاتُه[/vert]”، فَلَو لَم يكن، عَليه الصّلاة والسّلام، حيًّا يَسمع جميع المصلّين أينما كانوا بإسماع الله له ذلك لما كان لهذا الخطاب مَعنًى، بل ما كان صدورُه مِن المصلّين كَلامَ العُقلاء، فإنّك إذا سمعت متكلّما يخاطب إنسانًا ميّتًا من عصور كثيرة أو حيّا ولكنّه في بلاد بعيدة تظنّ أنّ ذلك المتكلِّمَ قد اختلطَ عَقله حتّى خاطب مَن ذَكَرَ بخطاب الحاضر معه. فَإذنْ لَم تُشَرَّع لنا مخاطبة النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، في الصّلاة بهذا الخطاب إلاّ وهو يَسمعها في حياتِه وبَعد مَمَاتِه.

2- حسن الاستماع والتصوّف:

والسّمع هو الوَاسِطة بين المُخاطِب والمُخاطَبِ، ويُعتَبَر ضمن الوسائل لسلوك طريق التّصوّف، يَسمع المريد تذكيرَ شَيخه فَيرفعه ذلك من حَضيض المُخالفات إلى مُستوى الطّاعات، ومِن الجَهل إلى العلم، ومِن الغَفلة إلى الحضور والغيبة عمّا سوى المَذكور، جَلّ وعلا، وتراه بعد مُواظبته على قراءة وَظيفَتِه وذكر أوراده يَجتمع مع السّادة الفقراء لسماع الذّكر والمُذاكرة، يَتَعَنَّى مع أنّه يتغنّى، لَه فكر مَع الذّكر، وبهذا الاعتناء تتكوّن فيه مَلكة الفهم والذّوق ممَّا يَسمعه من الصّيغ والقصائد الشّعرية التّي يَشتمل كلّ بيتٍ منهَا على معانٍ عَظيمَةٍ وحِكَمٍ جَليلة، يَستنير بها في سلوكه الطّريقَ لغاية الحصول على المعرفة والتّحقيق.

يقول الشيخ المربي سيّدي محمد المدني، رضي الله عنه وأرضاه، في رائيّته:

إنْ كنتَ ذَا عـــــزٍّ وَذَوقٍ فَانْهَضَنْ *** بِلا تَوانٍ أو تَــــــــــرَاخٍ فَاتِرٍ
وارْكَب جَوادَ الفَهم واقْصدْ نَحوَهَا *** ولاَ تَحِدْ عَن الطَّريقِ الطَّاهِرِ
وانْــــهَضْ بِجدٍّ واتْرُكَن لِما سِوى *** نـــــــورِ الإله من كَمَالٍ بَاهر
وخُذْ طَــريقَ الحبّ إن شِئتَ العلا *** فَمُلكـــــــــــــه مُلْك الإلهِ الآمِرِ

ويخاطب مريدَ الوصول، وهو كلّ من له همّةٌ عاليةٌ وإرادة سامية تَتوق إلى معرفة الله فيقول:

يا مَن يريد الوصول *** ويبغــــي منّا القبول
يتبع طريقَ الفحــول *** أهــــــــــل الفَنا والبَقا
يتبع طريقَ الرّجــال *** ويَطرح عنه الجدال
هذا طريقُ الجمــــال *** والعزّ والارْتِقــــــــاء
يَقف لنا في الأبــواب *** نرفع عليه الحجـــاب
نكشف له الاقتــــراب *** يفوز بعد الشّقـــــــاء
حتّى يصل للمقصـود *** رغما لأنف الجحود
يعرف إلها معبــــود *** إن ذاب وانمحقــــــــا
يقطع خيالات الأنـام *** وينفي عنه الأوهــــام
يدخل لبحر الهيـــــام *** يزداد فيه شوقــــــــــا
يغيب عن الــــوجود *** ويخفــــى عن المفقود
يذوق معنى الشّـهود *** يرقــى مع الأصدقاء
يذكر كأهل الكمـال *** وينفــــــي عنه الخيال
يمحــو جميع المثال *** يعــــرف معاني البقا

ويعبّر رضي الله عنه وأرضاه في آخر هذه القصيدة عن إرادته هو فيقول مخاطبا الحضرة العليّة:

والمدانــــــــي يريد *** دوما إليك يزيــــــــد
قربا كحبل الوريد *** أو أدنى من ذا اللّقاء

وقد جَمعَ، رضي الله عنه وأرضاه، طَريقَ التّصوف من بدايته إلى نهايته في بيتين اثنين فقط من قَصيدته من حيث تعيين المقصد من سلوك الطّريق وتحقيقه بالتوجّه وتصفية الباطن أو القلب والتّرقي في مدارج العرفان حتّى يصل المريد إلى حضرة المراد فيقول:

يا جَميلاً قَد تَجَلَّى *** لَيسَ لي قَصدٌ سِواكَ
إنَّ قَلبي قَد تَخَــلَّى *** وتَحلّــــى بِــــــــحُلاكَ

أليس هذا مجمل التّصوف الذّي يشتمل على التّخلي بداية والتّحلي ثانيا والتّجلي نهاية.

إنَّ قَصائدَ شيخنا سيّدي محمد المدني المربّي عليه رضوان ربّي التّسع والخمسين تُعتَبَرُ رَصيدًا هائلاً لا يقتصر الفقير على سماعها فقط بل تتطلّب منه التّعمّق في فَهمها ودِراسِتهَا لأنها لا تقلُّ شأنًا عمّا كتبه، رضي الله عنه وأرضاه، في مَجال النّثر فيكتسب من كلّ قصيدة حلّةً نورانيّةً تَزيده قوّة ويقينًا وتمكينًا في الحضور حتّى يصير عارفًا بالمَذكور على حدّ قوله في حكمة من حكمه: الإيمانُ يَتَقَوَّى بِقُوّةِ المُجَاهَدَةِ حَتَّى يَصيرَ إيقانًا والإيقانُ يَعظُم بِشدّة الحُضُور حَتَّى يَكونَ مُشَاهَدَةً وَعِيانًا.

ويشتمل الشّعر الصوفي للشّيخ الجليل سيدي محمد المدني رضي الله عنه وأرضاه على مواضيعَ مُختلفة تعلّقت فُيوضَاتُه بعلم التّوحيد وبالحضرة المحمّدية على صاحبها أفضل الصّلاة وأزكى التّحية، وبِسنده الشّيخ سيدي أحمد العلاوي وبأهل الله العارفين وبالمريدين وسيرهم وترقّيهم في تربيتهم المعرفيّة، كما توجّه في شعره إلى المنكر على هذا الفنّ ناصحا له ومرشدًا، وارتجل نظمًا حاورَ فيه الشيخ محمد الحبيب الفاسي من مدينة فاس بالمغرب حتّى رجع إلى جادّة الصّواب معترفا بالشّيخ سيدي أحمد العلاوي، ونظم شعرًا كاتبَ فيه سيدي عيسى بسكر من بلد بوسعادة من الجزائر ومدحَ في شعره جريدة البلاغ الجزائريّة وجريدة لسان الدّين الجزائرية أيضا.

وبما أنّ لكلّ فنٍّ مصطلحاته اللّغوية فإنّ الشّعر الصّوفي لشيخنا المدني احتوى على مصطلحات صُوفيّة: كالسّكر والصّحو والخمرة والكأس والأنس والتّجلّي والتّدلّي والنّشوة والغرام والجمع والفرق والشّوق والرّضا والفناء والبقاء والشّهود والظهور والبطون والهيام والرّاح والشّراب والفيض والحجاب والوحدانيّة والسّوى والمحبّة والعشق والهوى والعين والغين والمقام والملك والملكوت والجبروت والحضور والغيبة والوَصل والهَجر والجمال والجلال ويَومَ ألستُ والأين والبين والوجد والمحبوب والفتق والرّتق إلى غير ذلك…

وهذه المصطلحات تتطلّب الاعتناء من كلّ منتسبٍ لهذا الطّريق حتّى تَنمو معارفُه بما أنّ السّيرَ إلى الله ينتهي ببلوغه المعرفة، والسّير في الله لا يَنتَهي لأنَّ القناعَة من الله حرمانٌ، وقد قيل بعد النّهاية الرّجوع إلى البداية بالاجتهاد في الطّريق علما وعملا ظاهرا وباطنا تربية وسلوكا.

وبمَا أنّه لا يخلُو مَنزل فقير من وجود ديوان ” أنيس المريد في التّصوف والتوحيد” فإنّ هذا يُعدّ بَابًا يَسّر الله له تعهّده لاكتشاف كنوز المعرفة إذا تحقّق بما تَضَمَّنه، ومن اعتنى بذلك صار من أهل العناية وسُلِكَ به مَسلكَ القُرب والهداية، وتوالت على قلبه البَشائر الربانية، قال بعضهم:

إذا العِنايَة لاَحَظْتكَ عُيونُها *** نَمْ، فَالمَخاوف كُلّهُنَّ أَمَانُ

واللهَ نَسأل أن يجعلنا مِن المتّبعين لشيخنا في الأقوال والأفعال والأحوال، وأن يَجعلنَا من أهل القُرب وأنْ يَسلكَ بنَا مَسالكَ أَهلِ الجَذب، وأن يَضمّنا بفضله وبجاه رسوله وحبيبه صلّى الله عليه وسلّم إلى من شملته هذه الآية: ([vert]فَبَشِّر عِبادِ الذّين يَستَمعونَ القَولَ فَيتّبعونَ أَحْسَنَه، أولئك الذّين هَداهم اللهُ وأولئكَ هُمْ أولُوا الألبَابِ[/vert]) الزّمر18

بقلم سيدي الحاج المنصف الولهازي
مُقَدَّم مَقاديم مدينة تونس

المصادر
– تحفة الذاكرين ص36
– أنيس المريد في التّصوف والتّوحيد
– الأنوار المحمدية ص198
– شواهد الحقّ في الاستغاثة بسيّد الخلق ص283

المولد النبوي لابن عاشور

1- الحَمدُ للهِ الذي أطْلعَ للنَّاسِ في ظُلمَة الضَّلالَةِ بدرَ الهُدى، وبلَّ بِغَيْثِ الرَّشادِ...

مِن نَفحاتِ المَولِدِ النبويِّ

المَولد النبويُّ مُناسَبَةٌ مُحمديَّةٌ زاهرة، ويَومٌ من أيَّامِ الله الباهرة... تَحياهَا القلوبُ...

عَشْرَةُ دَواعٍ للاحتِفَال بِالـمَولِد النَّبَويِّ الشَّريف

الاحتِفَال بِالـمَولِد النَّبَويِّ الشَّريف في الاحتِفَال بِذِكْرى مَولِدِ الرَّسولِ الأعْظَمِ،...