نِعم الاعْتِصَام بِحَبْلِ اللهِ

Home شعائر التصوف كتابات صوفية دراسـات نِعم الاعْتِصَام بِحَبْلِ اللهِ

بسم الله الرحمان الرحيم

المقدمة

الحمد لله الذي غمر صفوة عباده بلطائف التخصيص كرماً وامتنانا وألّف بين قلوبِهم فأصبحوا بنعمته إخوانا ونزع الغلّ من صدورهم فظلّوا في الدنيا أصدقاء وإخوانا وفي الآخرة رفقاء وخلانا، والصّلاة والسّلام على سيّدنا وحبيبنا محمّد المصطفى وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه واقتدوا به قولا وفعلا وعدلا وإحسانا .

عذب التغنّي في مديحك أحمد * والقول يحلو فيك أنت محمّد

أنا يا رسول الله فيك متيّـم * والله يعلم والملائك تشهـد

عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشرى تُرى في وجهه فقال إنه جاءني جبريل عليه السلام فقال أما يرضيك يا محّمد أن لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرا . رواه الدرامي وأحمد والحاكم في صحيحه وابن حبّان والنسائي .

فصلّوا عليه وزيدوا في محبّته

أيها الجمع الكريم

أحييكم بتحية الحق تعالى لأهل الجنة سلام الله عليكم،
إنه من دواعي الشرف الكبير أن أقف بين أيديكم في زيارة أولى إلى الجزائر وكذلك إلى هذه الزاوية المعمورة، وما هي إلا زيارة امتداد لزيارة كانت سنة 1954 قام بها المنعّم المرحوم جدّي الشيخ محمد المدني ووالدي المبارك أطال الله عمره الشيخ محمّد المنور المداني برا بالأستاذ الكبير سيدي أحمد العلاوي قدّس الله سرّه في زيارة لضريحه وها أنه بعد خمس وخمسين سنة يكون سليل العائلة المدنية أو بالأحرى الطريقة المدنية العلاوية البوزيدية في هـذا المنبر ليطرح هذه المداخلة و ها ا نه بعد مضي قر ن كا مل من مغا د ر ة الشيخ
محمد المد ا ني للجزائر وقد قضى فيها حوالي ثلا ث سنوا ت في خد مة شيخه الا ستا د احمد العلا و ي يعو د إليها الحفيد الما ثل بين ايد يكم إنها كر امة إلا هية .

يطيب لي بدءا أن أثني على مجهودات المنظمين لهذه المائوية شاكرا لهم حسن وفادتهم وكريم ضيافتهم وأدعو الله أن يسدد خطاهم ويكــلل بالتوفيق والنجاح أعمالهم. وان يز يد الشيخ الفا ضل سيد ي عبد القادر دحاح نورا على نور و صحة و عا فية و تمكينا .

لقد اخترت تقديم شرح موجزٍ للآيات 102-104 من سورة آل عمران محاولا إبراز بين ثنايا هذه البيانات نعم الاعتصام بحبل الله بما أنه من محاور هذه الندوة المباركة إلى جانب محاور أخرى ثرية وهامة.

يقول تعالى ” ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون -102- واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلّكم تهتدون -103- ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون 104- صدق الله العظيم .

هذه الآيات المباركة من سورة آل عمران ، وهي سورة مدنيّة بالإجماع وعدد آياتها مائتان أورد الإمام النيسابوري سبب نزول هذه الآيات في كتابه أسباب النزول ص 62 ” عن ابن عباس قال : كان بين الأوس والخزرج شرّ في الجاهلية فذكروا ما بينهم فثار بعضهم إلى بعض بالسيوف فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فذهب إليهم فنزلت هذه الآية من قوله تعالى “وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله …. إلى قوله واعتصموا بحبل الله جميعا

كما أورد الإمام السيوطي صورا للترابط بين سورة الفاتحة والبقرة وآل عمران في كتابه أسرار ترتيب القرآن ص 85 :”ومن الربط الوثيق بين الفاتحة والبقرة وآل عمران ، إن الصراط المستقيم ذكر مجملا في الفاتحة ثمّ عيّنه في أول البقرة بقوله “ذلك الكتاب” الآية 2 ثمّ عيّن طريق السير عليه في آل عمران بقوله ” ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم ” الآية 101 ، ثمّ فصل وسيلة الاعتصام بالله بالاعتصام بحبل الله ، فلمّا كان الصراط المستقيم دقيقا جدا ، ويحتاج السائر عليه إلى غاية من اليقظة حثّ الله على الاعتصام بكتاب الله ، وسمّاه حبلا ليناسب الصراط الدقيق حيث يحمي السائر عليه من الزلل وحذّر من الفرقة ودعا إلى التذكير الدّائم عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعتبر بمثابة التعليم الدّائم وتصحيح الأخطاء الناشئة عن الهوى .

حقّ التُقَــى

يقول تعالى ” يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون” -102- معنى الآية يا معشر من صدّق الله ورسوله خافوا الله وراقبوه بطاعته واجتناب معاصيه تلك هي التقوى ، مشتقة من فعل وقى والوقاية حفظ الشيء مما يؤذيه ويضرّه والتقوى جعل النفوس في وقاية مما يخاف ، وأمر الله تعالى “اتقوا الله ” معناه الاتقاء على وزن افتعال من الوقاية وهي فرط الصيانة “حقّ تقاته” ،أي حقّ تقواه وما يجب منها وهو استفراغ الوُسع في القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم ونحوها ، أي بالغوا في التقوى حتّى لا تتركوا من المستطاع منها شيئا روى البخاري عن مرّه عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “حقّ تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر ” .

وعن قتادة في قوله تعالى “ اتقوا الله حقّ تقاته ” ثم أنزل التخفيف واليسر وعاد بعائدته ورحمته على ما يعلم من ضعف خلقه فقال ” فاتقوا الله ما استطعتم ” فجاءت هذه الآية فيها تخفيف وعافية ويسر ، يقول الإمام الشعراوي ما حقّ التقى ؟ هو أن يكون إيمانك إيمانا راسخا ، واتقاء الله حقّ تقاته هو إتباع منهجه .

وفي قوله تعالى “ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون “أي حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنّه من عاش على شيء مات عليه ومن مات على شيء بعث عليه، لذا لا بدّ أن نحرص على أن نكون مسلمين فإن صادف الموت في أي لحظة يكون مسلما وكأن الحق سبحانه يقول لنا تمسكوا بإسلامكم
لأنكم لا تدرون متى يقع عليكم الموت وذكر الشيخ الطاهر ابن عاشور “في “التحرير والتنوير” أن مضمون هذه الآية فيه تحريض على تمام التقوى لأن في ذلك زيادة صلاح ورسوخا لإيمانهم وهو خطاب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وبشرى إلى جميع من يكون بعدهم وحقّ التقوى هو أن لا يكون فيها تقصير وفي قوله تعالى”فاتقوا الله ما استطعتم“التغابن الآية 16 ، والاستطاعة هي القدرة ومادامت التقوى مقدورة للناس وبذلك لم يكن تعارض بين الآيتين .

ولا نسخ والحقّ أن هذا بيان لا نسخ، وفي قوله تعالى ” ولا تموتنّ ” ففيه نهي عن الموت على غير الإسلام يستلزم النهي عن مفارقة الإسلام في سائر أحيان الحياة.

الاعتصام بحبل الله … سبيل الهدى

قال تعالى ” واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلّكم تهتدون -103- صدق الله العظيم..

بداية الآية بفعل أمر معطوف على أمرين “اتقوا و لا تموتن” في الآية السابقة إذ ثنى أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم لأخراهم وبأمرهم بما فيه صلاح حالهم في دنياهم وذلك بالاجتماع على هذا الدين وعدم التفرّق ليكتسبوا باتحادهم قوّة ونماء ،والاعتصام افتعال من عصم وهو طلب ما يعصم أي يمنع “واعتصموا” جاء هذا القول الكريم لينبه كل المؤمنين من خلال الأوس والخزرج وكأنه يقول اعلموا أن التفاخر قبل الإسلام كان لأشياء وبأشياء ليست من الإسلام في شيء لكن حين يجيء الإسلام فالتفاخر يكون بالإسلام وحده وفي معنى قوله تعالى ” بحبل الله” أقوال مختلفة نورد أهمّها :

1. إسماعيل حقي

أي بدين الله أو بكتابه فلفظ الحبل مستعار لأحد هذين المعنيين فإن كل واحد منهما يشبه الحبل في كونه سبب للنجاة من الردى والوصول إلى المطلوب فإن من سلك طريقا صعبا يخاف أن تنزلق رجله فيه فإذا تمسّك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق آمن من الخوف، فمن اعتصم بالقرآن العظيم وبقوانين الشرع القويم وبيّنات الربّ
الكريم فقد هدي إلى صراط مستقيم ، إذا فحبل الله هو كل سبب يتوسل به إلى الله فالمعتصم بحبل الله هو المتقرّب إلى الله بأعمال البرّ و وسائط القربة وإذا وجد الاعتصام وجد عدم التفرقة بخلاف عدم الاعتصام فإنه سبب للتفرّق في الظاهر والباطن .

2. ابن كثير

أي بعهد الله وقيل القرآن وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إن هذا القرآن هو حبل الله المتين وهو النور المبين وهو الشفاء النافع عصمة لمن تمسّك به ونجاة لمن اتبعه.

3. القرطبي

: الحبل لفظ مشترك وأصله في اللغة ، السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة والحبل العهد عند ابن عباس قال الأعشى

وإذا تجوّزها حبال قبيلة * أخذت من الأخرى إليك حبالها

وقال ابن مسعود ، حبل الله القرآن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إن هذا القرآن هو حبل الله ” وأن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة ورحم الله ابن المبارك حيث قال :

إن الجماعة حبل الله فاعتصموا * منه بعروته الوثقــى لمن دانا

4. الأصفهاني

الحبل استعير للوصل ولكل ما يتوصل به إلى شيء فحبل الله هو الذي معه التوصل به إليه من القرآن والعقل وغير ذلك مما إذا اعتصمت به أداك إلى جواره .

5. ابن العربي

واعتصموا بحبل الله، أي بعهده في قوله “ألست بربكم ” الأعراف 172 مجتمعين على التوحيد.

6. الطبري

تعلقوا بأحباب الله جميعا وتمسكوا بدين الله الذي أمر به وعهده الذي عهده إليكم في كتابه من الألفة والاجتماع على كلمة الحقّ والتسليم لأمر الله ، والحبل هو السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة ولذلك سمي الأمان حبلا لأنه سبب يوصل به إلى زوال الخوف والنجاة من الجزع والذعر .

7. ابن عاشور

الحبل ما يشدّ به للارتقاء أو التدلي أو للنجاة من غرق أو نحوه ، والكلام تمثيل لهيئة اجتماعهم والتفافهم على دين الله و وصاياه وعهوده بهيئة استمساك جماعة بحبل ألقي إليهم من منقذ لهم من غرق أو سقوط وإضافة الحبل إلى الله قرينة هذا التمسك ودعم الحق ّ تعالى ” اعتصموا بحبل الله ” بحال وهو لفظة “جميعا “وهو حال من فاعل اعتصموا أي مجتمعين في الاعتصام وفي ذلك إشارة إلى أنه ليس المقصود الأمر باعتصام كل
مسلم في حال انفراده اعتصاما بهذا الدين بل المقصود الأمر باعتصام الأمة كلها، وتأكيدا لمضمون اعتصموا جميعا ورد ” لا تفرقوا ” وهو أمر ثاني للدلالة على طلب الاتحاد في الدين
والشيء قد يؤكد بنفي ضدّه واعتصموا ولا تفرقوا دليل على أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه ، وثمّة من ذهب إلى أن ” ولا تفرقوا ” يعني في دينكم كما افترقت اليهود والنصارى في أديانهم ويجوز أن يكون معناه ولا تفرقوا متابعين للهوى والأغراض المختلفة وكونوا في دين الله إخوانا فيكون ذلك منعا لهم عن التقاطع والتدابر لأن أهم مقصد للشريعة من التشريع انتظام أمر الأمة وجلب الصالح إليها ودفع الضرّ والفساد عنها ، فإن صلاح أحوال المجموع وانتظام أمر الجماعة أسمى وأعظم .

فقد جاءت النصوص الشرعية تعلن أن الأمة الإسلامية أمة واحدة يسودها التراحم والتعاطف والمودّة ولهذا نجد أن الإسلام حريص على وحدتها وتماسكها لأنها الرسالة التي تضطلع بمسؤولية حملها إلى الأمم الأخرى ونشرها في العالم ، فوحدة الأمة الإسلامية عنصر رئيسي من عناصر قدرتها على حمل هذه الرسالة وقد حرّم الله عليها أن تلج الفتن وإن تتفرق إلى دول متعددة وجماعات متناحرة قال تعالى ” واعتصموا بحبل الله جميعا ” وقد جاءت النصوص تحرّم كل ما يؤدي إلى تقويض وحدتهم وتفتيتها كتحريم الانفصال عن الأمة الإسلامية ، تحريم الدعوة إلى العصبية والقتال في سبيلها ، لأن في العصبية تمزيق لوحدة الأمة وتفتيتا لجهودها وإضعافا لشوكتها وهذا يؤدي إلى طمع الأمم بها والاستيلاء على ديارها ومقدراتها قال تعالى ” ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ” الأنفال 46 .

إن الاختلاف الفكري على الفروع الدينية ضرورة شرعية وطبيعية ومن المستحيل استحالة جمع الناس كلهم على مذهب واحد أو رأي واحد في مسائل فرعية ظنيّة هي موضوع نظر واجتهاد بالفطرة وما دام مرجع الجميع كتاب الله وسنّة رسوله ، والخلاف على الفرعيات إنما هو الفهم والتوجيه والترجيح وطلب الحق وخوف الله فلا خصومة قط ولا سوء ظن أبدا ولكن تفاهم على أساس الحب في الله ، فقد احترم كبار أئمة المذاهب آراء بعضهم فصلى الإمام الشافعي عند قبر أبي حنيفة بمذهب أبي حنيفة أدبا مع روحه، لأن دعوى احتكار الصواب والوصاية على دين الله ليست من العلم ولا الخلق ولا الدين.

ودلّ على هذا ما بعده وهو قوله تعالى ” واذكروا نعمت الله عليكم ” وليس فيه دليل على تحريم الاختلاف في الفروع فإن ذلك ليس اختلافا إذ الاختلاف ما يتعذر مع الائتلاف والجمع و مازالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث وهم مع ذلك متآلفون وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” اختلاف أمتي رحمة ” وإنما منع الله اختلافا هو سبب للفساد . قال ابن عباس لسماك الحنفي ‘ يا حنفي الجماعة ، الجماعة فإنما هلكت الأمم الخالية لتفرقها أما سمعت الله عزّ وجلّ يقول”واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ” ‘
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا. ”

فأوجب تعالى علينا التمسك بكتابه وسنّة نبيه والرجوع إليها عند الاختلاف وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادا وعملا وذلك سبب اتفاق الكلمة وانتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا والدين والسلامة من الاختلاف وأمر بالاجتماع ونهى عن الافتراق الذي حصل لأهل الكتابين فعدم التفرّق يعني وحدة الصف التي هي روح الإيمان الحي ولباب المشاعر الرقيقة التي يكنها المسلم لإخوانه فيحيا لهم ويحيا بهم وكأنهم أغصان انبثقت من شجرة واحدة أو روح واحد حلّ في أجسام متعددة .

فقد كره الله تفرق المسلمين في دينهم بقوله تعالى “ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ” الأنعام 159..
ومن المظاهر التي توحي بالوحدة المطلقة بين الجماعة المؤمنة :

– الآذان الواحد يجمع المسلمين لصلاة واحدة.

– أداء الصلاة جماعة بإمام واحد وقبلة واحدة .

– صلاة الجمعة لقاء أسبوعي الجماعة فيها فرض يتلاقون على الوداد و الإخاء.

– تتسع دائرة الوحدة في صلاة العيدين .

– تكبر الدائرة في يوم الحج الأكبر حيث يلتقي ملايين الوافدين من مختلف بقاع الأرض بلباس واحد ودعاء واحد يدعون ربا واحدا ويتفكرون نداء رسول الله صلى الله


عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقول “ أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم

ويأتي الأمر الثالث في نفس الآية ” واذكروا نعمت الله عليكم ” وقد وردت في تفسيرها أقوال مختلفة:

* ابن كثير : هذا السياق في شأن الأوس والخزرج فإنه قد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن طال بسببها قتالهم فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم صاروا إخوانا متحابين بجلال الله متواصلين في ذات الله متعاونين على البر والتقوى وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين “يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي “.

* ابن عاشور: انكشاف فائدة الحالة التي أمروا بأن يكونوا عليها وهي الاعتصام جميعا بجامعة الإسلام الذي كان سبب نجاتهم، وفي ضمن ذلك تذكير بنعم الله تعالى الذي اختار لهم هذا الدين والتذكير بنعم الله تعالى طريق من طرق مواعظ الرسل.

* ابن عربي : بالهداية إلى التوحيد المفيد للمحبة في القلوب .

* ابن عجيبة : واذكروا نعمة الله عليكم التي من جملتها الهداية بالإسلام المؤدي إلى التآلف وزوال الغلّ فأصبحتم متحابين مجتمعين على الأخوة في الله قال صلى الله عليه وسلم ” لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ”

* القرطبي : أمر تعالى بتذكر نعمه وأعظمها الإسلام وإتباع نبيه محمد عليه الصلاة والسلام فإن به زالت العداوة والفرقة وكانت المحبة والألفة والمراد الأوس والخزرج والآية تعمّ ومعنى فأصبحتم بنعمته إخوانا أي صرتم بنعمة الإسلام إخوانا في الدين وكل ما في القرآن
‘أصبحتم ‘ معناه صرتم كقوله تعالى ” او يصبح ماؤها غورا ” الكهف 41 أي صار غائرا والإخوان جمع أخ وسمي أخا لأنه يتوخى مذهب أخيه.

* الغزالي : قال تعالى مظهرا عظيم منته على الخلق بنعمة الألفة ” لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ” الأنفال 63 ، وقال تعالى “ فأصبحتم بنعمته إخوانا ” أي بالألفة ثم ذمّ الفرقة وزجر عنها فقال عزّ من قائل”واعتصموا بحبل الله ” وقال صلى الله عليه وسلم “ مثل الأخوين إذا التقيا مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى
ومنها نتخلص إلى تعداد نعم الاعتصام بحبل الله ،انطلاقا من قوله تعالى ” إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم ” فالنعمة لم تكن عند العداوة ولكن حصول التأليف عقب تلك العداوة فقد امتن الله عليهم بتغيير أحوالهم من أشنع حالة إلى أحسنها من حالة العداوة والتقاتل إلى حالة الأخوة وفي قوله ” بنعمته” الباء هنا للملابسة بمعنى (مع) أي أصبحتم إخوانا مصاحبين نعمة الله وهي نعمة الأخوة ، “وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم “عطف على “كنتم أعداء ” فهو نعمة أخرى وهي نعمة الإنقاذ من حالة أخرى بئيسة وهي حالة الإشراف على المهلكات واختيار الحالة المشبّه بها هنا لأن النار أشدّ المهلكات إهلاكا فالامتنان بنعمتين محسوستين هما نعمة الأخوة بعد العداوة ونعمة السلامة بعد الخطر وفي قوله “كذلك يبين
الله لكم آياته
“نعمة أخرى وهي نعمة التعليم والإرشاد وإيضاح الحقائق حتى تكمل عقولهم ولفظة ‘ آياته ‘ يجوز أن يكون المراد بها النعم .

الدعوة إلى الخير… سبيل الفلاح

قال تعالى “ ولتكن منـكم أمة يدعـون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر و أولئك هم المفلحون « 104

ودونَ أن نطيل في بيان دلالات هذه الآية، نقتصرُ على ذكر أنّ “منكم أمة” للتبعيض حسب القرطبي ومعناه أنَّ الآمرين يجب أن يكونوا علماء، وليس كلّ الناس علماء فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية كذلك يقول ابن عربي “من جملتكم جماعة عالمون ، عاملون ، عارفون ويقول الشعراوي خصال الخير ليس من الضروري أن تجتمع في واحد لكنها قد تجتمع في عدد من الأفراد ومن مجموع الأمة تظهر صورة الكمال .أما اسما عيل حقي فيقول “أمة يدعون إلى الخير ” أي جماعة داعية إلى الخير و إلى ما فيه صلاح ديني ودنيوي فالدعاء إلى الخير عام في التكليف من الأفعال والتروك .

وخلاصتها أنه من وسائل تحقيق الوحدة ونبذ الفرقة دعوة الناس بعضهم بعضا للخير وتناصحهم فيما بينهم بعيدا عن كلّ شوائب الانشقاقات فذلك كفيل بزرع المحبة وزوال الخلافات الطائفية المذهبية المتعصبّة وبروز مظاهر الاعتدال والوسطية والسماحة هو سبيل الفلاح .فالله عز وجل لم يخلق الناس لينقسموا ويختلفوا قال تعالى: “شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ” الشورى 13

ومن هنا كان التحذير شديدا من الخلاف في الدين والتفرق في فهمه والتعصب للشهوات الذاتية والأفكار المنغلقة وكانت الدعوة صريحة للإتحاد والتآخي وتقوية جميع مظاهر

الاعتدال والسماحة والتحاور البناء والتناصر بين المسلمين لا تناصر العصبيات بل تناصر المؤمنين الصالحين المصلحين لإحقاق الحق وإبطال الباطل .

الخاتمـــــة

زبدة القول أنّ الله تعالى أمر المؤمنين أولا بالتقوى وثانيا بالاعتصام وثالثا بتذكر النعمة لأن فعل الإنسان لا بد وأن يكون معللا إما بالرهبة وإما بالرغبة والرهبة متقدمة على الرغبة لأن دفع الضرر مقدم على جلب النفع فعلى العاقل الانقياد لأمر الله والطاعة لحكمه والاعتصام بحبله وعدم التفرق في الدين والتقوى حق التقى من الله سبحانه .

وإننا في فترة حاسمة من فترات البناء والتعمير والإصلاح، وأساس البناء في الأمم هو سلامة عقيدتها وصفاء طبيعتها ومناعة أخلاقها، وحصانة أعراضها وصيانة حرماتها ولن يعمر بنيان قوم مهما شيدوا وجددوا إذا كانت أخلاقهم خربةً أو كانت صدورهم يبابا وإنما يسمو البنيان ويسمق ويعلو ويشهق على قواعد أمينة رصينة وأسس متينة ركينة من العقائد السليمة والأخلاق القويمة والأعراض الكريمة وصدق الله العلي العظيم حين يرشدنا إلى صراط الهدى والرشاد فيقول: “وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون

قال سهل ألتستري ‘ ليس للعبد إلا مولاه وأحسن أحواله أن يرجع إلى مولاه إذا عصى قال يارب استر عليّ فإذا ستر عليه قال يارب تب عليّ فإذا تاب عليه قال يا رب وفقني حتى أعمل فإذا عمل قال يا رب وفقني حتى أخلص فإذا أخلص قال يا رب تقبل مني

اللهم تقبل منا خالص أعمالنا ووفقنا لما تحبه وترضاه واجعلنا من الأوابين العابدين المعتصمين بحبلك المتين وأبعد علينا الفرقة وأسبابها ويسّر لنا سبيل الوفاق والاتفاق .

والســــلام عليكم ورحمة الله وبركاته

المراجع والمصادر

* أسباب النزول = الإمام النيسابوري ( توفي 468 هـ) ضبط وتصحيح محمد عبد القادر شاهين الطبعة الأولى سنة 2000 دار الكتب العلمية .

* أسرار ترتيب القرآن = جلال الدين السيوطي دراسة وتحقيق عبد القادر أحمد عطا الطبعة الثانية سنة 1985 .

* مفردات ألفاظ القرآن = الأصفهاني

* الجامع لأحكام القرآن = القرطبي ج 4 ص 157/158 دار إحياء التراث العربي بيروت الطبعة الثانية مارس 1975

* تفسير روح البيان= إسماعيل حقي ( توفي 1137 هـ)ج 2 دار إحياء التراث العربي ص 71

* جامع البيان عن تأويل آي القرآن = الطبري ( توفي 310هـ) الطبعة المصرية سنة 1954

* مقاصد الشريعة الإسلامية=محمد الطاهر بن عاشور دار السلام للطباعة ص 134 سنة 2006

* تفسير القرآن العظيم = ابن كثير ( توفي 774 هـ) ج 1 ص 366/367

* تفسير القرآن = ابن عربي ( توفي 638 هـ)

* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد = ابن عجيبة (توفي 1224هـ)

* إحياء علوم الدين = الغزالي ج 2 ص 139 مصر رجب 1346هـ

* زبدة التفاسير = محمد متولي الشعراوي المكتبة التوفيقية ص 8 سنة 2004

ما ر س 2009

المولد النبوي لابن عاشور

1- الحَمدُ للهِ الذي أطْلعَ للنَّاسِ في ظُلمَة الضَّلالَةِ بدرَ الهُدى، وبلَّ بِغَيْثِ الرَّشادِ...

الصيام عند الشيخ الطاهر بن عاشور، رحمه الله.

الصِّيامُ عِبَادةٌ شُرِعَتْ لِمَقاصدَ ساميةٍ وحِكَمٍ عَالِيَةٍ، هي مِن قَبيلِ الحِكمَةِ العَمَليَّة لِريَاضَةِ النَّفْسِ عَلَى استذْلالِ المَصَاعِبِ، والتَّصَبُّرِ عَلى التَّخَلُّق بالأخْلَاق المَلَكيَّة. وقِوامُهُ الإمساكُ عَن الشَّهَوات المُلازِمَة لِما في الهَيْكَل الجِسْمَانيِّ مِنَ المَادَّة التي تَغينُ عَلى تَجَرُّدِ الرُّوح. فَالقَصْدُ مِنهُ إضعافُ القُوَى الماديَّةِ، لتَنبَثقَ من مَنافِذِهَا أشَعَّةُ النَّيِّر الرُّوحانيّ.

الرحلة الحجازية، رحلة الحجّ

نعتز اليوم بتقديم هذا الكلام النفيس الغالي الذي صاغه الشيخ سيدي عبد العزيز البوزيدي، وفيه من...