شرح شَجَرَة الأكْوان

Home شعائر التصوف شرح شَجَرَة الأكْوان
صلاة شجرة الاكوان المسماة بالوظيفة

صلاة شجرة الاكوان المسماة بالوظيفة

صلاة شجرة الاكوان المسماة بالوظيفة
صلاة شجرة الاكوان المسماة بالوظيفة للشيخ محمد المدني القصيبي المديوني

بسم الله الرحمان الرحيم

وَصلَّى اللهُ وسلّمَ على دُرَّةِ الأصفياء، تاجِ الأنْبِياء، وفخار الأولياء، وعلى آله وصَحابَتِه الأتقياء، ومَن تَبعهم بإحسانٍ إلى يومِ اللّقاء.
أمّا بعد، فهَذا شَرحٌ وَجيزٌ مُختَصر لِما في شَجرَة الأكوان من لَطائف المعاني والدُّرَر. أرَدتُ به تقريبَ مَبانيها حتَّى يَسْهل على الأذهان دركُ مَعانيها. وقَصدت إلى شَرح مفرداتِها، لا إلى بحصر فيوضاتها. وأسْأل اللهَ الإخلاصَ في الأعمال وقَبولها يومَ المآل.

الوظيفة : هو اسمٌ لكلِّ مَا يُوَظِّفُهُ الانسانُ على نَفسِهِ من فِعل الخير، أيْ ما يَلتَزم به مِن صالِح الأعْمال، يقوم بهِ على سبيل النَّافلة والتقرّبِ بطريقة مُنتَظمَةٍ. وتَشمل الوظيفةُ المَدنيَّة تلاوةَ سورَةِ الواقِعَة وصيغَةِ “شَجَرَةِ الأكْوان” في الصَّلاة والسَّلام عَلى سيّدِ ولدِ عَدنان، وسائرَ التسابِيح. وبهذا التحديد يَقربُ مَعنى كلمة “وظيفَة” من مَعنى كلمة “وِرْد” أي ما يحافظُ عَلَيْه المؤمن من الأذكار آناءَ الليل وأطْرافَ النَّهار.

شَجَرَةُ الأكْوان: اسمُ عَلَمٍ بالغَلَبَة، يُطْلَق على هذه الصّيغة المُطَوَّلَة في الصَّلاة والسَّلامِ على النَّبيء، صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم. ومِن الأخبار المُستفيضَة أنَّ الشَّيخَ المَدنيَّ، رَحمَهُ الله، ذَكَرَ أنَّ الرَّسول، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، هو الذي أملاها عَلَيْه مَنَامًا في حُدودِ سَنة 1917، حينَ كانَ الشَّيخُ مُدَرِّسًا بالمَدرسة القرآنية بمدينة المُنستير.

وقَد استشارَ آنذاكَ شيخَه، سيدي أحمد العلاوي رحمه اللهُ، في تِلاوتها عِوضًا عن الصلاة المَشيشيَّة التي كان الفقراء يقرَؤونَها، فَأذِنَ لَه، وأقرُّهُ عَلى ذلكَ. ومن ذلكَ التاريخ إلى يَومنا، يَتلوها أتباعُه يَومِيًّا إثرَ صلاتَيْ الصُّبح والمَغْربِ، بَعد سورة الواقعَة.

إنَّ اللهَ وَ مَلاَئِكَتَهُ يُصلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً

الآية المَعروفَة، عدد56 ، من سورة الأحزاب. جيءَ بها هنا تذكيرًا بالأمْر الرَّبَّاني بِوجوب الصَّلاة والسلام عَلَيه حتَّى يكونَ إيرادُ شَجرةِ الأكوان طريقةً من طرق الامتِثال لهذا الأمر الإلهيَّ.

1- اللّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ

دُعاءٌ للهِ، وابتهالٌ أنْ يُصَلِّيَ عَلى النّبيء، صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم. والصَّلاةُ مِن الله عليهِ أنْ يَرْفَعَ قَدْرَهُ في العالَمينَ، وأن يُعطِيَه عزَّ الشَّفاعَةَ يومَ الدين، ثمَّ يُؤتيهِ المَقامَ المَحمودَ، غايةَ المُقَرَّبين، ويُتْحِفَهُ بمُشاهَدَة مَولاه في أعْلَى عِلِّيينَ.

وأمَّا السَّلامُ عليه فتأمينُه لدى انْهِمارِ التَّجليَّات، وإتحافُهُ حينَ توالي المُكاشَفات، حتَّى يَكونُ الحبيب آمنًا عندَ رَبِّه، مُتَمَتِّعًا بِلطائِف قُربه، متأنِّسًا بالمُخاطَباتِ، “دُونَ ضرَّاء مُضرَّةٍ ولاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ”.

2- عَلَى أَصْلِ شَجَرَةِ الأَكوَانِ

تَشْبِيهٌ للأكْوان كُلّها، عُلْوِيِّها وسُفْلِيِّها، بالشَّجَرة. وأغْصانُها كُلُّ ما بَرَأَ اللهُ مِن الكائِنات، خَفِيّها وَجَلِيِّها. فرَسولُ الله، صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، أصْلُها ومَغْرِسُها، مَعدَنُها الأصْفى ومَرْجِعُها الأوْفى. فَهو الحَقيقة العالِية التي انْبَثَقَت من صفاء أنوارها الكَائِنات، انْبِثاقَ شَرَفٍ وانْتِماء، لا انْبِثاقَ تَوَلُّدٍ. فهو أصْل الأصُول، وَكَنْز الوُصول. وكلُّ ما كانَ أو يَكون – مِن الرحمات- فهو عَنه مُتفرّعٌ، تَفَرّعَ الأفْنان عَن أشْجارِها والأشعة مِن أنْوارِها.

3- المُتَفَرِّعِ مِنْ نُورِهِ مَا يَكُونُ وَمَا كَانَ،

أيْ إنَّ الكَائِناتِ جَميعِها، ماضِيهَا وآتِيها، مُنْبَثِقَةٌ من النُّور المُحمّدي المَصون، انْبثاقَ الأغْصان مِن الأصولِ. ولا يَنْبَغِي أن يُفهمَ التفرّعُ على أنَّه تَفرّعُ تَوَلّدٍ وانبثاقٍ، أو تَخَلُّقٍ وانْشقاقٍ، إذْ لا حَديثَ هنا عن الأكَوان المَحسوسَةِ، وإنَّما المقصودُ التغنِّي بأنَّ أصلَ الرَّحمات ومَنبعَ البَركات وسَبَبَ الفيوضات، القبلية والبعديَّة، إنَّما هو نَبيّنَا، عليه الصلاة والسلام. وكلُّ ما يأتيه الصالحونَ من القُربات إنَّما ظهرَ ببركة صدقِ رسول الله مع ربِّهِ، وتبليغه لرسالاتِه، وقيامه بواجبات عبوديَّتِه. بل الدهرُ من حَسناتِه ولا فَخْرَ. وهَذا الوصف الرَّفيع إيماءٌ إلى أنّ كلَّ ما أنشأَ الله تعالى من أنْوار المَعرفة وأنواء الكَرامة هو من كَرَم الرسول، صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، الذي فاض على المَوجودات.

4- بَحْرِ نُورِكَ

تشبيهٌ ثانٍ للرَّسول، صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، بِبَحْرِ نُورِ اللهِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ الكَرمُ والضِّيَاءُ مُتَّحِدَيْنِ. فَالنَّبي، عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، بأخلاقه الطَّاهِرَةِ، ومَناقِبِهِ الفاخِرَة، بَحْرٌ -في المَعالي- مَديدٌ، لا شاطئَ لِمَكارِمِهِ، ولا غايَةَ لفَضَائِلِهِ. الصَّدَفُ المَكنونُ عُلومُهُ، والدُّرُّ المَصونُ فهومهُ. وتفيدُ إضافَةُ البحرِ لِنور الله اختصاص النَّبيء بالتعبير عن مُرادِ مولاهِ، وإيضاحِ آيات الكتابِ وتبليغها. ومَن قَصَدَ بَحرَ نُورِ اللهِ فازَ بالجُود والإشراق وعاد بحِلْيَة الأذواق والأشواق.

5- المُنَزَّهِ عَنِ التَّحْدِيدِ

التَّنزيه: الرِّفْعَة والتَّعالي والتَّباعُد عَن كلِّ مَنْقَصَةٍ. والكلامُ مَدحٌ رقيقٌ لِمِقدار رسولِ الله السَّامي: مَفادُهُ أنَّ الحَدَّ – أيْ التَّعريفَ- لا يُمكنُ أن يُحيطَ بِكمَالاتِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيه وسلّم. فَجَوهُر الحُسن الشريف أسْمَى مِن أن يَحُدَّهُ الحدُّ، أكانَ وَصْفًا أو تَعريفًا أو مفهومًا. إذْ تَنَزَّهَت الذَّاتُ المُحَمَّديَّة فَلاَ يُدرِكُ كُنْهَهَا الواصفونَ، ولا يَبلُغ حقيقتَها المادِحونَ، بَعدَ تَمجيدِ الحقّ إيَّاه بقولِه المُبين: “ومَا أرْسَلْناكَ إلاَّ رَحْمَةً للعالَمينَ”.

6- المُبَرَّإِ عَنْ رِبْقَةِ الإِطْلاَقِ وَالتَّقْيِيدِ،

البَراءَةُ هي التَّنَزُّهُ والتَّسامي والارْتِفاع. والرَّسولُ، عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ تَحُدَّهُ رِبْقَةُ المَفاهيم والحُدود، أكانَت مُطْلَقَةً أي: عَامَّة، أوْ مُقَيِّدَةً أيْ: مُخَصِّصَة. (والرِّبْقَةُ: العِقال الذي يُشَدُّ في رَقَبَة الجَمَل وهَذه الاسْتعارةُ مُتداوَلَةٌ في كَلام العَرَب ومِنه قَولنا: رِبْقَة التَّقليد). والمَعنَى أنَّ عظمةَ رَسولِ الله، أعْظَمُ من تَحُدَّها مَبادِئُ الإطلاق أو التَّقييدِ، وأسْمى من أنْ تحيطَ بها أوصافُ الواصِفينَ، سَواءً عُمِّمَتْ أو خُصَّصَتْ، وكلُّ وَصفٍ – وإنْ رقَّ وَرَقا- فهو يَقْصُرُ لا محالةَ عَنِ الإحاطَة بكمالاتِه الشَّريفة ومَقاماتِه العالِيَةِ المُنيفَة. “ومَنْ لي بإحْصاء الحَصى والكَواكِبِ”.

7- عَيْنِ كُلِّ الأعْيَانِ،

لِكَلمةِ “العَيْن” في كَلامِ العَرَبِ ثلاثونَ مَعْنًى. وقد وَرَدَت هُنا بمَعنى الحَقيقَة الأصلِيّة. فَالمُصْطَفَى، صَلواتُ اللهِ وسلامُهُ عَلَيْه، ذَاتُ كلِّ الذَّواتِ، وحَقيقتُها الأوَّليَّة، جَوْهَرُها الأغْلَى ومَعدَنُها الأعْلَى. وعَنْه تَفَرَّعَتْ ذَواتُ الأكْوان، ومِنْ أنْوارِه السَّنيّة انْبَثَقَت حقائقُ الأعْيانِ. والأعْيَان – وهيَ المَوجودات الخَارِجيّة- إنَّما لأجلِ النَّبِيء خُلِقَت، ومِن بَركاتِ بَرَكَتِه انْبَجَسَتْ.

وقد تَكون “العين” بِمعنى النَّهر الجاري. فَهو، صَلَّى الله عَلَيه وسلَّم، اليُنبوعُ الأصْفَى الذي عنه صَدَرَتِ الحَقائِقُ والأَفهامُ، ومِن نَبْعِه فاضَت الرَّقائقُ والأحْكامُ.

8- المُتَدفّقِ مِنْ أصْلِ النُقْطةِ الأَزَليَّةِ،

فَهذهِ العَيْنُ المُحمَّديَّة الجاريةُ بالخَيْرات إنَّما نَبَعَت من أصلٍ كَريمٍ قَديمٍ أَلا وَهْوَ سابِقيّةُ عِلمِ اللهِ وإرادتِهِ ومَحَبَّتِهِ لِنَبِيِّهِ، عَلَيْه الصَّلاةُ والسَّلام، وذلكَ قبلَ إنْشاءِ المَوْجودات وإبْداع الكائِنات. وقَد شَبَّهَ الشيخُ المَدنيُّ هذه الأوَّليَّةَ بالنُّقطة التي يَبتَدِئُ بها رَسمُ الكَلام المَرْقوم. فاجْتِباءُ الله القديمُ عَبْدَهُ مُحَمّدًا، بالنُّبوَّة -وآدَمُ بَينَ الطّينِ والماءِ- هو أصْلُ النُّقطة الأزليّة التي مِنْها ظَهَرَت الجَوهَرَة المُصْطَفَويَّة، ظهورَ الأسْطُر المُتَوالِيَة من رَقْمَةِ القَلَم الأولى على الصَّحيفَة. وهذا من بَديعِ الاستعارة.

9- المُتَجلِّي بِمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِسَائِرِ البَرِيَّةِ،

لِرَسولِ الله، صَلّى اللهُ عَلَيْه وسلَّم، حَقيقَتانِ: نُورانِيَّة لا يَعْلَمُ كُنْهَها إلاَّ اللهُ. وبَشَريَّة، تَجَلّت للناسِ إظهارًا لِسِرِّ الصَّفْوَة الربَّانِيِّة وكَشْفًا لِسَبْقِ الاجْتِباء والخُصوصِيَّةِ. فكانت صورَتُهُ البَشَريَّة ستارًا رَقيقًا يخفي الحقيقَةَ النورانيّة، رَحمَةً مِن اللهِ بِسائِر البَريئة وهم الناسُ عامَّةً، مُؤْمِنِهم وكافِرِهِمْ، الذينَ بُلِّغوا الرسالَةَ، فَمَن أبْصر ذلكَ النورَ أسْلَمَ وسَعِدَ، ومَن أنْكَرَه حُجِبَ وشَقيَ. وهاتان الحقيقتان المُتَّحِدَتانِ ذُكِرَتا في قَولِه تَعالَى: “إنَّمَا أنَا بَشَرٌ مِثْلُكم يُوحَى إلَيَّ…”، فَجَمَعَ الحقُّ تَعالى، في هذه الآيَةِ للنبيّ وَصْفَ البشريَّةِ وشَرَفَ التلقّي عن ذاتِهِ العَليَّة. ولا يَتَلَقَّى كلامَ الله القديم إلاَّ قلبٌ ضُمَّخَ بِأنوارِ الخُصوصِيَّة.

10- الَّذِي بَرَزَت لِلعِيَانِ حَقَائِقُهُ المُحَمَّدِيَّةُ،

من آثارِ الاصْطِفاء الرَّبَّانيِّ أنْ ظَهرت للأنام تَجَلِّياتُهُ، وعَمَّتِ الآفاقَ بَركاتُه، وتَكَشَّفَتْ حَقائِقُهُ اللطيفَة ونَفَحاتهُ. وهذا تأكيدٌ لمقدار الرّسول الذي أعلى الله ذِكْرهُ حينَ جَعَلَهُ مُظْهِرًا لِرسالاتِهِ، ناقِلاً لكلمِاتِه، مُعبّرًا عن قَديم إرَاداتِه. وهذا جَوهرُ الرسالة المُكْتَنَزُ في قَولِه تعالى: “وَما مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسولٌ”، تَغَنَّى به مولاه، وكمَّلَ كمالاتِهِ وأغْناه. وَوَرَدَت “الحقائقُ” بِصيغَةِ الجَمْع إيماءً إلى وفْرَتِها وعَظَمَتِها. فما عَلى الأبْصار –وإنْ كَلَّتْ- إلاَّ أنْ تدركَ مَداهَا، وتَتَمَلَّاها في عُلاهَا.

11- الفَرْعُ الزَّاهِرُ الزَّاهِي،

بَعد تَمثيلِ الرَّسولِ، عَلَيْه الصَّلاة والسَّلام، بِأصْلَ شَجرَة الأكوان، شَبَّههُ الشيخ المدنيّ بِفَرعها الزَاهي، أيْ المُشرِق المُنَوَّرُ، حَتَّى يَتِمَّ الوَصفُ المحمودُ والنعت البليغ وهو اعتبار النَّبِي، الأصْلَ والفرعَ، في ذات الآن. فَهو مَنْبَع الخَيرات وهو مَظهَرُها، وهو أصلِ النفحاتِ وهو تُرْجُمانُها. وذلكَ تَغَنٍّ راقٍ بِعُمومِ الأنْوار المُحَمَّديّة وشمولِها لكلّ المَوجودات.

12- بَلِ الأَصْلُ البَاهِرُ الإلَهيُّ،

استدراكٌ لَطيفٌ للتأكيد أنَّ الرَّسولَ، عليه الصَّلاة والسلام، إنَّما هو أزكى أصولِ الرَّحمات، وأصفى مَنابِعِ النَّفحات، بل هو المَصدر الأعلى لكلّ الفيوضات. وهذا الأصلُ باهرٌ -أيْ مُشْرِقٌ- ضاربةٌ جذورهُ في إرادة الله ورَحمَتِه وحكمته. وجلَّ الذي وَصَفَه بقوله: “وَمَا أرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً للعالَمينَ” مادِحًا انبثاقَ الدرّة الأحمديَّة مِن لَدُنْ عليٍّ حكيمٍ.

13- فَيْضُ الأَمَاكِنِ والأزْمَانِ،

الفَيْض -أيْ ما يَفيضُ- وهو كِنايَةٌ عن الكَرم والجود وَالعطاء الجَزيل. فالرَّسول، صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، هو الذي أكرَمَ الله به كلَّ الأمْكنة والأزْمانِ وزيّنَ اللهُ به الدهورَ والأوطان. فَما مِن عَصْرٍ أو مِصْرٍ إلاَّ ورَسولُ الله بَرَكَتهُ الكُبرى وهِبَتُه العُظمى. فَهوَ القائل: “إنَّما أنَا رَحْمَةٌ مُهْداةٌ”.

وتُفيد إضافَةُ “الفيض” إلى “الأماكن والأزمان” انحصارَ الفَضْل في إحْيائِها بِمَحَبَّة الرسول واتِّباعِ سُنَّتِهِ. فلا يُحسبُ اليومُ -في مِيزانِنا- إلَّا إذا تَزَيَّنَ بذكر الله والصلاة والسلام على حَبيبه ومُصْطفَاهُ. وكذلكَ لا تعمرُ الرّبوعُ – رُبوع القلوب والمهج- إلاَّ بالتعلق به، وإلا فَهْي خَرَابٌ بَلْقعٌ.

14- وَيُنْبُوعُ المَعَانِي والعِرْفَانِ،

اليُنْبوعُ: عَينُ المَاء الجارِيَة. والكلامُ تَشبيهٌ بليغٌ لِرسولِ الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسلّمَ، بالعَين التي تنفَجِرُ منها مَعاني الشَّريعةِ ولَطائفُ الحَقيقَة. والمَعاني: حقائِقُه الدِّين العالِية، ومَقاصِده الرّوحيّة الرَّاقية. أساسُهُ المَتينُ وصِراطهُ القَويم. هَذا، وَما مِنْ لَطيفةٍ مَعْرِفِيَّة أو دُرّةٍ شَرْعيّة إلاَّ وَمَنْبَعُها تَعاليمُ الرِّسَالة المُحَمَّدية المُطهّرة. كمَا أنَّه لاَ يُعْتَدُّ بِالوارِدات – وإنْ جَلَّت- إلاَّ إذا طَابَقَتِ الشرعَ الحنيفَ والسّننَ النَبويَّ الشَّريف. وأمَّا العِرفان فَتَحَقُّقُ العِلمُ بالله، بِلا وَهْمٍ ولا رَيْبٍ، ولا يحصلُ ذلكَ إلاَّ باتِّبَاعِ نَهْجِ حَبيبِ الله، صَفْوَةِ خَلقه ومُجْتَبَاه.

15- فَهُوَ جِنَانٌ

استعارةٌ مُسْتَأنَفَةٌ بَديعَةٌ، بها يُشَبَّهُ الرَّسول، صلَّى اللهُ عَلَيْه وسلّم، بالجِنَان -مُفْرَدُها جَنَّةٌ- وهي الحَديقةُ المُخْضَرَّة الزَّاهيَة نَوْرُها. وَوَجه الشَّبهِ ما فِيها من جَمال المَنْظر، وحُسنِ الرُّوَاء، وبهجةِ الحُلَّة، نَماءً وخَيْرًا وماءً زُلالاً. وهو عينُ ما جاءَ به الرَّسول، عليه الصلاة والسلامُ، شَرائعُ زاهيةٌ وحَقائق زاهرِة. ففي هَدْيِهِ جَنَّة العارفين، وبُستانُ المُحبِّينَ، ورَوضَة المُشتاقين. فَمن طلبَ وارفَ الظِّلال، فَعَلَيْهِ بِمَحَبَّته، ومَنْ رامَ طَيِّب الأثمارِ، فَفي نَهجِ سُنّتِهِ.

16- والأَنَامُ أَثْمَارُهُ:

تَرشيحٌ للاستِعارة وتَوسِعَةٌ لَها. أيْ إنَّ إيمانَ عامَّةِ المُسلمينَ – إلى أنْ تَقومَ السَّاعَةُ- هُوَ مِن ثَمراتِ صِدْق رَسولِ الله، صَلَّى الله عَلَيْه وسلّم، وبَركةٌ مِنْ بَركاتِ دَعوتِهِ ودُعائِهِ. فَما مِن أحَدٍ آمَنَ بالله ربًّا، وصَدَّقَ بكتابِه إمامًا، وأقامَ شعائرَ الدِّين إخلاصًا، إلاَّ وَهو حَسَنَةٌ من حَسَناتِ حَبيبِ الله، عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام، وثَمرةٌ من ثَمراتِ مُصابَرَتِه، وأثرٌ من آثار مَحَبَّته لِأمَّتِه وحِرْصِه عَلَيْها. “حَريصٌ عَلَيْكُم بالمؤمنينَ رَؤوفٌ رَحيمٌ“.

وكَذا مَا يَنَالُه خاصَّةُ العارفين من اللَّطائف والمَعاني فهي من مَدَدِ الرّسول وغيثٌ من غيوثِ أمْدادِه وأنْوارِه. وكذلكَ شَأنُ مَا يَغمرُ خاصَّةَ الخاصَّةِ من عَلِيِّ المُشاهَدَات ورقيقِ المُكاشَفات.

فَفي كلِّ دَرَجَةٍ من دَرجاتِ الايمان والإسْلام والإحْسانِ تُشاهَدُ ثِمارُ ذلك الصِدقِ النَّبَوِيّ مَع رَبِّه.

17- أَوْ رَوْضٌ وَبُرُوقُ الخَلْق أَنْوَارُهُ،

تنويعٌ على الاسْتِعارة الأولى. وفيهِ تشبيهٌ بديعٌ للرسول، عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلام، بالرَّوضَة الغَنّاءِ، الزَّاهِرَةِ أفانِينُها، اليانعةِ أزاهيرُها. فَكلُّ ما يناُلهُ الناس من بُروقٍ أيْ مِن نُورٍ وضِياءٍ فهو مِن مَدَدِ المُصطَفى الحَبيب، ومن آثار بَرَكَته ودَعواتهِ. والأنوار هُنا هي جَمْعُ “نَوْرٍ” (وليس جَمع “نُورٍ”) وهو الوُرودُ البَيضاء الفَاخِرة. فَالشيخَ المدنيّ جعلَ مِن صَالِحي المُسلمينَ، المُحبينَ للنَّبيّ، بِمثابَة وُرودٍ بَيضاءَ تَيْنَعُ من بَرَكَةِ نُبُوَّتِه، وتُزْهِرُ مِن جمالِ طَلعَتِهِ، بَعد أنْ تُسْقى بِماءِ مَحَبَّتِهِ.

18- بَلْ هُوَ سَمَاءُ الوُجُودِ

اسْتعارةٌ لطيفةٌ فيها تَشْبيهٌ بليغٌ للرسول، عليه الصلاة والسَّلام، بالسَّمَاء. وَوَجْه الشَّبَهِ الرِّفعةُ والإحاطَةُ والعُلُوُّ. فالرّسول، صلَّى اللهُ عَلَيْه وسلّم، للعَالَم بِأسْره بِمثابَة السَّماء العالية التي تُظِلُّهُ. وهو للوجودِ الأفُقُ الأجْمَلُ الذي إلَيْهِ تَتَطَلَّعُ أعناقُ المُحبينَ ولهُ تَسْمو هِممُ العارفينَ. بلْ هو سَماء المَعالي والمَعاني التي “مَا طاوَلَتْها سَمَاءُ“. وهو أيْضًا سَماء الفَضْلِ والمَدَدِ ومَصدَر الغَيْث والسِرّ والرَّشَدِ. هَذا، ولَيسَ للسماء حدٌّ – في الخَيرَاتِ والصالحات – فيدركُ أو يُدانى، ولَيسَ لَها مثالٌ فَيُضاهَى، وكَذلكَ مقداره السامي، صلَّى اللهُ عَلَيْه وسلّم، لَيسَ لِغايَتِهِ فَناءٌ ولا لِتَرقِّيه انْتِهَاءٌ.

19- أَضَاءَتْ فِي لَيْلِ الأَكْوَانِ بُدُورُهُ وأَقْمَارُهُ،

ولِهَذه السَّماء المُحَمَّديَّةِ بُدورٌ طالِعَةٌ تُشْرقُ على العَوالِم، وأقمارٌ ساطعة تُضيءُ دَياجيرَهَا. وهذه استعاراتٌ فاخرةٌ تُومِئُ إلَى أنوار المَعارف التي فاضَت من مَعالِي الحَقيقة المُحَمَّديّة فَأضاءَت لَيلَ الوجودِ، المَقرونِ بظُلماتِ الجَهْل والغَفلَةِ والهِجْرانِ. وحقًّا، كانَ مَقدَمُ رَسولِ الله، صلوات الله وسلامه عَلَيْه، للعالَم وما بَلَّغَه منَ الرِّسالات، ونَادى إلَيهِ من القُربات بِمثَابَةِ بُدورٍ زاهرَة بَدَّدَتْ كَثَافةَ الجَهلِ والمَعاصي والإبْعاد. فَعُلوم التوحيد التي بَثَّها في العالَمين، فتَلَقَّاها عنه وَرَثَتُهُ الميامين، هي الأقمار الطَّالعَة التي نَوَّرَتِ القلوبَ فَعَمَرَتها وغَمَرَتِ الأفئدةً فَصَقَلَتْها.

20- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا انْتَشَرَ عَلَى لَوْحِ الوُجُودِ سِرُّ الأَلْوَانِ

عودٌ إلى زَكِيّ الصَّلاة والسَّلام عَلى النَّبِيء، صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسلَّم. وفيهِ دُعاءٌ وَرَجاءٌ أنْ يُصلّيَ اللهُ تَعالى عَلَى عَبْدِه ورَسولِه مُحَمَّدٍ، بِقَدر الأعداد اللاَّمُتَنَاهِية من التَّجليات الربَّانيّة، في مِثلَ عَدَد الأسرار التي تَنْتَشِرُ علَى صَفحة الوُجود ولَوحةِ الأكوان، آتيةً مِن عُلَا الرّحماتِ والفيوضات.

وقَولُه: “سِرُّ الألوان” كِنايَةٌ عَن لَطائِفِ التَّجلّياتِ الرَّبّانيَّة المُتَنَوِّعَة التي تَفيض على العَوالم إيجادًا وإحاطةً وتَسْييرًا. والمَعْنَى أنّ الشيخَ المَدَنِيَّ، يَسْألُ اللهَ تعالى أن تَكونَ أعدادُ صلواتِه وسلامِه عَلَى رَسولِه بِأعدادِ انتشار تجلّياتِهِ وانبثاقها من سَطْوَةِ الإرَادَات، وهذهِ لا انتهاءَ ولا غايةَ لها. والكلامُ ضَراعةٌ أنْ يُشَملَ النبيءُ بالرحمة كُلَّمَا تَجَلَّى في مُلْكِهِ العَليمُ العَلاّمُ.

21- وَانْفَلَقَ مِنْ عَالَمِ الجَبَرُوتِ لَطَائفُ الْمَلَكُوتِ

عَالمُ الجَبَروتِ هو عالَم القَهْر والاقْتِدار، ومنه ظهورُ الأمْرِ والاخْتيار. وفيه مُجتمعُ صفاتِ الخلق والإنْشاء، بِيَد السطوة والاستيلاء، فهوَ بِهَيبَة القهر الأزليّ مَعروفٌ، وبقوّة الجَبر الأبديّ مَوصوفٌ. وأما الانفلاق – الذي يُنسبُ إلى البَدر والإصْباح- فهو ظهور آثار تلكَ القدرة الجَبْريَّة التي بها استولى الرحمن على سائر الأكوان، وَهَيمَنَ على مَصائِر الأعْيان.

وأما عَالَم المَلكوت فهو عالَم الأرواح اللطيفة، والكائنات النورانيَّة الشَّريفَة، التي تَجَرَّدَت عن التَّحَيُّزِ والامْتِداد، وتَسامتْ عَن كَونٍ واستحالةٍ وفَسَادٍ.

فاللّطائف الملكوتيّة إنّما تَنبَثق من الحضرة الجبروتيّة، وتَنْفَلِق مِن سَطْوَةِ الاقتدار، وتَفيض عن أوْصاف الأمْر والاخْتِيار.

23- وَكَثَائفُ الأَعْيَانِ،

ومِن حَضْرَة الجبروت أيضًا تَنْفَلقُ الكثائفُ وهي الأجسام الكَثيفة المَحسوسة، المضافة هنا إلى الأعْيان وهي الموجودات الملموسة، الكائِنَة خارِجَ الأذهان. فَيَنْبَثقُ مِن عزِّ اقْتِدارِه، ومِن أسرارِ أمْرِهِ وانتهارِهِ، وسَعَةِ قَولِه: “كُن”، سائرُ العَوالم المرئيَّة، والكائنات المعلومة المَجْليَّة.

والجملة كلّها تِتِمَّةٌ لذكرِ عَدَد الصلاة والسلام على النبيّ الحبيب. فالشيخُ المدنيُّ يسألُ اللهَ تعالى أن يُصَلِّيَ على نبيِّهِ المُجتَبَى، وصَفِيِّهِ المُرتَضَى، بِقَدر انْبِجاس الموجودات، أَكانَتْ نورانيَّة لَطيفَة، أو ماديَّةً كَثيفَة، بعدَ إنشائها بِيَد السطوة والجَبروت، والعزّ والمَلكوت. وبما أنَّهُ لا حصرَ لذلك الانفلاق، ولا نهاية لِآثار الانبثاق، كان مِقدارُ الصلاة والسلام عَلَيه بلا حدّ ولا نِهايَة.

24- نَسْأَلُكَ ببُطُونِ ذَاتِكَ عَنِ الشُّهُودِ،

ضَراعَةٌ لِلهِ مِن مَعين الصِّدقِ نَابِعَةٌ، ودَعوةٌ مِن مَنْهَلِ العِشْق ساطِعَة، فيها يَتَوَسَّلُ الشيخُ المدنيّ بِخَفَاء الذَّات الإلهِيَّةِ وتَعالِيها، وبِبُطونِها عَن الأبْصَار وتَساميها، فحقيقةُ الله العليّةُ تَحْجُبهَا الأسرارُ الذاتيّة، وبِها سَتَرَ الحقُّ نَفْسَهُ فلا عَيْنٌ تَرَاهُ، ولا حِسٌّ يَلقاه، وبها أخْفَى كُنْهَ أنوارهِ القِدَمِيَّة، فَلاَ يُدْرِكها من العالمين أَحَد، ولاَ يَحْصُرهَا أزلٌ ولا أبدٌ، وأنّى للعُقولِ البَشَرِيَّة أن تَرقى لِلذَّاتَ الصَّمَديَّة، وأنّى للأفهام الحادِثَةِ أن تنالَ الجَوهَرةَ الأوَّليّة، وأنَّى للشُّهودِ أنْ يَطالَ الأسرارَ العَلْيَائِيَّة. تَباركَ الله، فلا يُعرَفُ لِذاتِه أيْنِيَّة ولا كَيْفيّة، وتنزَّه عَن القَبْلِيَّةِ والبَعْدِيَّة. وَتَعالَت ذاتُه في عُلَا عَلْيَائِها، وتَقَدَّسَتْ في سَمَا سَنائها، سرًّا مُطَلْسَمًا ونورًا مُعْلَمًا.

على أنَّ خَفاءَ ذَاتِه، تعالى، عن الشهود مِن آيات رَحْمَتِه بالوجود، فَلَوْ ظَهَرَت من بِحارِ أحَدِيَّتِهِ لَمحَةٌ واحدةٌ لاحترقَت العوالم نُورًا، وصارَت هَباءً مَنْثورًا، حاشا النبيِّ المُجْتَبَى، عليه الصَلاة والسلام، الذي شاهَدَ أنوارَ المَعبود، ليلةَ قُرِّبَ في الشّهود “فما زاغَ البَصَرُ ومَا طَغَى“.

25- وظُهُورِ آيَاتِكَ لِلْوُجُودِ،

تَوَسّلٌ ثانٍ إلَيهِ تَعالَى، بِظهورِ آياتِ قدرتِهِ البَديعَة، وعلامات حِكمَتِهِ الرَّفيعَة، فدَلائلَ صُنْعِهِ المَنيعَة، وكلّها ظاهرةٌ في الوجود، مَجْلِيَّةٌ للشّهود. ومَا الأكوانُ على عِظَمها -عندَ كبارِ العارِفينَ- إلاّ مظاهرُ للحكمة العليّة وتجليّاتٌ للحَقيقَة الأوَّلِيَّة. فَلَئِنْ سَتَرَ الحقّ، جلَّ وعَلاَ، عن الأنظار ذاتَه، فإنَّهُ أظهرَ للأبصارِ آياتِهِ، ونَصَبَها دَلائِلَ ربٍّ مَجيدٍ، فَعَّالٍ لمَا يُريد. ولله دَرُّ الشيخ المدني يَتَوَسَّلُ لِمولاهُ، بِبطون ذاتِه، فَبِظهورِ آياته، وهذا من رَقائقِ العِرفان يَسوقُها من فُيوضاتِ الدَّيَّان.

26- أَنْ تَجْعَلَ في الصَّلاَةِ قُرَّةَ عَيْنِي،

مَوضوعُ الضَّراعَةِ والرَّجاء وغايَة السُّؤْلِ والمُنى: أنْ تكونَ الصَّلاة راحةَ رُوحِهِ في نسقِ العارفين، وبَهْجَةَ قلبِهِ في مَصاف المُتَّقينَ. وهو سؤالٌ مُستَوحًى من حديث الصادق الأمين، حينَ يُناجي رَبَّهُ وهوَ في عَلياء اليَقين: “وجُعِلتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاة“. فالشيخ المدنيّ بِرسول الله يَقْتَدي، وبأنوارِهِ يَهتَدي، فَيَسْألُ اللهَ أن تكونَ الصلاةُ سعادَتَهُ الكَاملة، وزينة روحِه المَوصولة الواصِلَة. ولَيسَ عند المُقَرَّبينَ فرحةٌ أعلى من مُناجَاة الحقّ على بِساط الأنْسِ والأشواق، ومُلاقاتِه بخطابِ الوَصل والتَّلاق، فانْبِساطٌ بكلامِه على البِساط، واغتباطٌ بخِطابِه لحظةَ الارْتباط.

27- كَيْ يَتَحَقَّقَ جَمْعِي

غَايَةُ الصَّلاة ومُنَتهَاهَا، وثَمرَتُها ومَعْنَاها، تَحَقّقُ الصِّلة باللهِ تَعالى، والاقترابُ مِن حَضْرَة قُدْسِهِ التي لا تَتَناهى. و”الجَمْع” هُنا كنايَةٌ عَن أنْوار الاتّصالِ بِمولانَا المَعْبود، حالَيْ الرّكوعِ والسُّجود، والدُّعاء بين يَدَيْ الحَميد المَجيد. وهذا الكلامُ الفاخرُ مقتبسٌ مِن قول الحَقّ تَعالى: “واسْجُدْ واقْتَرِبْ” (العلق:19) ومِن قَول نَبِيّهِ أحمدَ الحامِد، عليه أفْضَل الصلاة وأزكى المَحامد :” أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ “. (مسلم، 1/350 ).

وقد عَبَّر الشَّيخ المدنيّ عمَّا في الصَّلاة من أنْوارِ الخُشوع والحُضور، بِتَحَقُّقّ الجَمع في مَقام النُّورِ، واتّصالِ الأرْواح البَشريّة بِعَوالِم القُدْسِ السَّنِيَّة ومِنْ ثَمَّةَ الاستغراقُ فِي الأسْرَار العَلِيّة. وما الصّلاة إلا صِلَةٌ بَيْنَ العبد ورَبِّهِ.

28- وَيَزُولَ بَيْنِي

البَينُ هو البُعدُ والخَفاءُ والافْتِراق. وهنا يَضْرَعُ الشَّيخُ المَدنيُّ إلى العَلِيِّ الأعْلَى أنْ يُزيل عنهُ حُجْبَ الإبْعاد والفِراق، حتَّى يَظلَّ ساجدًا على بِساط الأنْسِ والأشواق، مُتَأنِّسًا بِرَفيع الأذْواق.

فَأعظمُ ما يَرجو المُؤمنُ مِنْ رَبِّهِ أنْ يزولَ البَيْن ويتَلاشَى الأيْنُ حتَّى لا يَبْقى في القَلب غَيْنٌ (أيْ ما يَغْشى القَلب). وأرقى ما يَأمَلُه المؤمنُ مِن الملكِ العَلاّم أن يتَّصلَ به على الدَّوام ويَفوزَ في دار السّلام بعدَ شُهود بحارِ الفَضلِ والإكرام بهَدْيِهِ “صراطَ الذين أنْعمتَ عليهم“.

29- وَتَثْبُتَ فِي شُهُودِيَ العَيْنُ

مُواصَلَةٌ لِذِكْر آثارِ الصَّلاةِ وفَضائِلِها وبَركَاتِها. فالصلاةَ تُعينُ المُؤمنَ على الثَّبات في شُهودِ العَيْنِ، أيْ ذَاتِ اللهِ تعالَى، المُتَجَلّيّةِ بأسْمائِه الحُسنَى، وصِفاتِه السنيّة، وأفْعالِه العليّة في الأكوان. والشَّيخُ المدنيُّ يَرجو أن تفيضَ عليه أنوارُ الصَّلاة فيشاهدَ آثارَ حكمة الله تعالى في الموجودات ولَطائفَ صُنعِه في الكائنات. وهذا الرَجاءُ منبثقٌ من خَشْيَتهِ أن يَنشغَلَ عَنِ اللهِ، أو أن يرى – في الكون- مَا سِواه، أو أن يَغفلَ بِمشاهَدَة الأسباب بَدَلاً عن مُسَبِّبها والحادثاتِ عِوضًا عن مُبْدِعِهَا.

فالأمَل مِن الله أنْ يَمحوَ صورَ الآثار وكثائفَ الأغْيَار حتى لاَ يَبقَى في الشهود إلا تجليّات الواحد الغفَّار.

30- بَدَلاً عَنْ غَيْنِي،

الغينُ ما يَغْشى القلبَ من الكَثافَة حتَّى تَحْجُبهَ عن الإبْصار.

ولمَّا كانَ فؤادُ المؤمنِ عُرضةً للحُجبِ والأغيار، ومَحَلاًّ للكثافة والأسْتار، تَمنعُ مشاهَدةَ أنْوار العزيز الغَفَّار، سألَ الشيخُ المدنيُّ اللهَ تعالى أن تكونَ تجلياتُه النورانيّة ماحيَةً لكلِّ الأوهام الظلمانيّة، ماحقةً لكل الكثائف الغَيريَّة، حتى لا تبقى مَع الله إنّيَّةٌ ولا هُوِيَّة. وهذا من الكلام العالي، المستَقى من أفضل مقال لسيد الرّجال، عليه الصلاة والسلام، إذ يَقول: ” إنَّهُ لَيغانُ عَلى قَلبي، وإنِّي لَأستغفرُ اللهَ في كلِّ يَومٍ مائةَ مَرَّةٍ ” (مسند أحمد وصحيح مسلم وسُنَنُ أبي داود).

31- وَنَسْأَلُكَ بِوَحْدَانِيَّتِكَ أَنْ تُصَلّيَ عَلَى التَّنَزُّلِ الأَوَّلِ

استئنافٌ للطَّلَبِ والدُّعاءِ والابْتِهال. وهنا يَسْأَلُ الشَّيخُ المَدَنِيُّ رَبَّهُ بِسِرِّ وَحْدانِيَّتِهِ الأزَليَّةِ، ويَتَوَجَّهُ إلَيْه بأنْوارِ وَحْدَتِه العليّة، التي بها تَنَزُّهَ تَعالى عَن الشّريك والوَلد والصَّاحِب، وتَقَدّسَ في عَليَائِهِ عن النَّظيرِ والوَزير والمُقارِب. هذا، والوَحدانيّة مِن صِفات الكَمالِ، التي يَحِقّ أن يُتَضرّعَ بها في مُخاطَبَةِ الكَبير المُتعالي.

وأما مَوضوع السُّؤال فهو أنْ يُفيضَ اللهُ مِن بَركاتِه الغَالِية ورَحماتِه العالية على روحِ سيِّدنَا مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسلَّمَ، الذي سَمَّاهُ الشيخ المدني هنا: “التنزّل الأوَّل” أيْ: الذي تننَزَّلَ من مُكْتَنَزِ رَحْمَةِ الله قَبلَ خلقَ آدمَ. فكان ظهوره، عليه الصَّلاةُ والسَّلام، من بِحارِ إرادة الله القاهرة، وكُرسيِّ حِكمَتِه الباهِرَة، فكأنَّ للحقيقة المحمديّة أصلاً أوَّلَ وهوَ أثرُ إرادة الله -في القدم- خلقَه وإنشاءَهُ. وهَذا النعتُ المَجيد والوَصفُ الحَميد للنَّبيء الوَدود مأخوذٌ من قوله: “كنتُ نَبِيًّا وآدَمُ بَينَ الرُّوحِ والجَسَدِ“. (أخرجه أحمد بن حنبل في المسند).

32- والظُّهُورِ الثَّانِي،

وَصْفٌ ثَانٍ لِحقيقَةِ النَّبيِ الجَوْهَرِيَّة، وَدُرَّتِه الاصطفائِيَّة، عليه الصلاة والسَّلامُ. فهو التَّجلِّي الأكمل – في الزمن- للحقيقة الأصليَّة التي أنْشَأَها اللهُ في الأزَل. طيبُ عنصرهِ الشريف أبانَ عنهُ مَولدهُ المُنيف، ثم مَبْعَثُهُ اللطيف إلى الناس كافةً بالدين الحنيف. فَكان إرسالُ محمد بن عبد الله إظهارًا بَعديًّا للإنْشاء القَبليّ وتجْلِيَةً للحقيقة النفيسَة التي اصطفاها الله قبلَ إيجادِ الوُجود. لَحظَتَان في الزَّمن تُجلي كلُّ واحدة منهما وَجهًا عزيزًا من الحقيقة الأحمدية التي لا يعلم كُنْهَهَا إلا الله تعالى.

33- قَبْضَةِ نُورِكَ الأَزَلِيِّ

وصفٌ ثالثٌ للحقيقة المحمدية. وقَد تكونُ هذه الجملةُ إشارَةً إلَى الخَبَرِ المُتَداوَلِ: “إنَّ اللهَ قبضَ قبضةً مِن نُورِهِ، فَقال لها: كوني مُحَمَّدًا”. وبما أنَّ هذا الحديث مُتَكلّمٌ فيه وَجبَ اعتبارُ الجملة استيحاءً من قَولهِ تعالى: “وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ. [الزمر:67]. فالقَبْضَةُ اسْتِعارةٌ لقدرة اللهِ وحِكمَته وتصرُّفِه في الموجودات. وبما أنَّ نورَ الحقيقة المُحمديّة مِن أفرادِ الكائنات، بل هو أرفُع التَجليّات وأنْوَرِ الكَمالات، جَعله الشيخ المدنيُّ مَدارَ الحِكمة الربَّانية ومَجلاها، وألطفَ تَشَكُّلاتِ النّور الأزليِّ وأعْلاها، كأنَّ النبيءَ، عَليه الصلاة والسلام، بأخلاقِهِ وشمائِلِه أسنى تجلٍّ لقُدرة الله وحِكْمَتِهِ.

34- وَسِرِّ سَائرِ الأَوَانِي.

وَصْفٌ رابِعٌ للحقيقَة المُحَمَّديّة، فيهِ يُمَثَّلُ النبيُّ العدنانيُّ بِسرِّ الأواني. وفي اصطلاحِ أهلِ المَعاني، ترمزُ الأَواني – ومُفرَدُها آنية أي الوِعاء- إلى القُلوب التي مَلَأتْها لَطائفُ الحِكمَة الباهِرة، وبوارقُ الدِّين الفاخِرَة. فَسَيِّدُ الأنام، عَليه السلام، إنَّما هو سرُّها اللطيف، مَنْ عَمَرَ حُبُّهُ سائرَ الافْئدَة الصَّادِقة والمُهَج الشَّائِقة. فَحُبُّه المُهدى مِن حَضْرَة الغُيوب ساريًا في الأرواح والقلوب هو حَقيقة المؤمنين وجَوهرَة المُتَّقينَ. وهذا الوَصْف الحَسَن مُقتَبَسٌ مِن قَولِ الصّادِق المُؤتَمَن: “لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَواهُ تَبَعَاً لِمَا جِئْتُ بِهِ (حَدِيْثٌ حَسَنٌ صَحِيْحٌ رَواه النووي)، فلا يَلمسُ الإيمانُ شغافَ القلوب إلا إذا سكنها الحِبُّ المَحبوب، فكانت للعشق أجْمَل آنِية تُغذّيها قطوفٌ دانِيَة.

35- اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى مِرْآةِ الْحَقَائِقِ،

عَودٌ الى الصَّلاة والسَّلام على سيِّدِ الأنام الذي يُشَبَّهُ هنا بِمِرآة الحَقائق أي الصَّفحَةُ المُشْرِقَة التي تَنعَكِسُ عَلَيْها الحَقائق الربَّانيَّة والأنوارُ الذَّاتيَّة. فَسُنَّتُه الطَّاهِرة، صلَّى الله عليه وسلمَ، المُتَضَمِّنَةُ لأقوالِهِ وأحوالِه وأفْعالِه الفاخِرة، مِرآةٌ صافيةٌ تَعكس ما أودَع الله فيه من الحِكَم والمَعالي واللَّطائِفِ والمَجَالي. ومَن أرادَ شهودَ الحَقائق فَمِن مِرآتِهِ يَسطعُ نورُ الرَّقائِق. وهَذا يشيرُ إلى قَوله تعالى :”يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا” (الأحزاب :45 -46) فالشَّهادة والبِشارة والنَّذارَة والدَّعوة والإنارَة كلّها حقائقُ شافية تَنْعَكِسُ من مِرآتِهِ الصَّافِية.

36- مِصْبَاحِ نُورِكَ

اسْتِعارَةٌ بديعة. فيها يُشَبَّهُ نَبيُّ الفَلاح بِلَطافَةِ المِصْباح، الذي مِنه تَصدُر الأنوارُ الإلهيَّة، فَهو مِشكاة النّور الأعْظَم، وكَوكَبُ الضِّياءِ الأكْمَل، مَنْ به نَوَّرَ الله السماوات الأرضين وعَمَرها بِبَوارِق اليَقين، فأشرقت به أنوارُ الهِدايَة، وانْفَلَقت مِنه لَوامِعُ العِنايَة. وقَد وردَ هذا المعنى صريحًا في قَولِ الرَّحمَن الرَّحيم، مُخاطِبًا حَبيبَهُ الكَريم: “وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا” (الأحزاب: 46). فَمَن أرادَ أن يهتدي في رِحلَةِ الحياة، ويَسْعَدَ بعد المَمَات، فَعَليه اتباعُ سيرة سيِّدِ السَّادَاتِ، يَجِدْها لأنوارِ الله مِصْباحًا، ولِسطور مَعرفته ألْواحًا، ولِهُيامِ رُوحِهِ مَراحًا.

37- المُمْتَدِّ ضِيَاؤُهُ إلَى أَجْزَاءِ الخَلاَئقِ،

ترشيحٌ لاستِعارة المِصباح. إذ مِنْ ذلكَ المصباح السنيّ فاضت أنوارُ النبوّة اللاّمِعة، وبَرَكات الهداية الساطعة، فشملت قلوبَ المؤمنين وغَشِيت مُهجَ العارفين. وهذا هو امتداد نُوره، عليه الصَّلاةُ والسلام، إلى خاصّة العِباد الذين حَباهُمُ الله بالهِدايَة والرَّشاد.

وأما سائر الخلائق فَهم بِفَضل الله مَشمولون، وفي رَحماتِه مَغمورون، ومِن بَركة مبعثه الشريف أنَّهم لا يُعَذَّبون وهو فيهم، وأنَّ الأغلال مَوضوعَة عَنهم. وهذا المعنى النفيس مَأخوذ من القول العزيز: ” الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ” (الأعراف، 157).

37- مَنْ تَجَلَّيْتَ عَلَيْهِ بِلاَ فَاصِلٍ وَلاَ فَارقٍ

مُخاطبَةٌ لِعزِّ جَمالِ اللهِ، والمَدحُ فيها لحِبِّهِ، رَسولِ اللهِ. هي الإشارةُ لمن نالَ أعظمَ التَّجلِّيَات وفازَ بألطفِ المُشاهَدات، لَيلةَ إسراءٍ رأى فيها أكبرَ الآيات. فَكانت ساعةَ الوَصل والكَمالات، حينَ زالتِ الأغيارُ والمَسافَات، وتَلاشَت الحُجْبُ والعَلاقَات. فانقطعت فَواصِلُ الأنَام، وهبَّت نَسائمُ السرّ والسَّلام، ولَمْ يَبقَ إلاَّ الحَبيبانِ ساعةَ التجلِّي: عبدٌ يُخاطبُ رَبّهُ بذلَّةِ التَخلّي، والمجيدُ يُفيض عليه من السَناءِ الكلّي، فَسبحَ نَجمُ القلبِ المُحمَّديّ وما هَوى، حينَ أوحى الحقُّ إلى عَبده ما أوحى “. وما صارت جبالُه دكّا، بل سارعَ الفؤاد لحبِّهِ وما تَلكّا. فأراه من الآيات الكُبرى وانكشفتِ الأسرار تَتْرى. فَسمعَ النبيّ ترنيمَ الوَحيِ يُتلى، وأبصرَ أنوارَهُ تُجْلى، وكان اللقاءُ بلا كَيف ولا تشبيه، بل أنوارُ توحيد وجلالٍ وتنزيه، ولسان حاله يَنطق مِن مدده: ” سبحانَ الذي أسْرى بِعَبْدِه “.

38- حتَّى قُلْتَ: “إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ”

وَمِن آثارِ التَّدانِي ليلةَ الإسْراءِ، وبَركاتِ التَّلاقي فيها مَعَ بارِئِ الوَرَى، أنْ طَوى الحقُّ تَعالى ما كانَ بَينَهُ وبينَ حَبيبِهِ مِن الأسْتار، وأعْلى مَقامَهُ في مصافِّ الأبْرار حتَّى جَعلَ مَن يُبايعُ رسولَهُ الكريم كَمنْ يُعاهِدُ المَولى العظيم، وصَرَّحَ بأنَّ تَسلَّمَ اليَدِ الشَّريفة بِمثابَة الوُقوفِ أمامَ الحَضْرَةِ اللطيفَة: فكانَت جَلالةُ الحَظوة المُحمَّديَّة مُتدليّةً من عِزّ اللطافة الأبَديَّة، فكادَت الأسرار أنْ تُهتكَ لِرقّتِها، وزَالت الأغيارُ تعظيمًا لِعزّتِها.

وأما آيةُ سُورة الفَتح المُضَمَّنَة هنا فهي تأكيدٌ لقَداسَة العَهدِ المَقطوع في حَضرةِ المُصْطَفى، ولِخَطَرِ الوَعد الموعود للنَّبِيِّ المُجْتَبى، والإشارةُ في الآية إلى رِفْعَةِ القَدْر المُحَمَّديِّ وفَذاذَة المَقام الأحْمَديّ، حتَّى عادَلَ الوقوفُ بَين يَديْهِ وأخذُ العَهد مِن راحتيهِ إمضاءَ الميثاق في حضرة اللِه. وذلكَ من الله تعظيمٌ للعُهودِ المَقطوعة لسلكِ دَرْب الوِداد، وإغلاظٌ للمواثيق المَتبوعَة لنَهْج الرَّشاد.

ومن رقائق الأفهام هنا أنْ جَعلَ الشيخ المدنيُّ هذه المَعانيَ الغرَّاء مِن بركات ليلةِ الإسراءِ، إذ كيفَ تُمْحى آثارُ تلكَ الآياتِ الكُبْرى التي شَاهدَها الحبيبُ يَقَظةً على أصحِّ الآراء.

39- فَأسْبِلِ اللَّهُمَّ علَيَّ حُلَّةَ سَنَاهُ

عودٌ إلى مُخاطَبَةِ رَبِّ العزَّةِ والجَلالِ، بَعدَ الفَراغ مِن ذكرِ فَضائِل رَسولِ الرَّحمةِ والجَمال، صَلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم إلى يومِ المَآل. ومَوضوع الدُّعاءِ والسُّؤال أنْ يَشملَ الله عَبيدَه المؤمِنينَ بحُلَل النُّور المُبين، وأن يَتَكرّمَ عَليهم بلطائف العلمِ واليَقين. والحلَّةُ هي اللِّباس الحَسَن الذي يُزَيّن كلَّ برٍّ مُؤتَمَن، والاستعارة تنظرُ إلى قَوله تعالى: “ ولباسُ التَّقوى ذلكَ خَيرٌ ” (الأعراف- 26). والسَّناءُ هو شدَّة الضياء ووفْرَةُ الحسن والرُّواء. والإسْبال هو الشُمول الكامل.

فالشيخ المدني يَتَضَرّعُ إلى الحَقّ تعالى أن يُلبسَ كلَّ مؤمنٍ حلَّةَ الجمال وهي التقوى التي تُجَمِّل السّلوكَ فَترفعُ المريدَ إلى مَصافِّ المُلوك، ومِن ثَمراتِها المَعارف العالية التي تُزَيّنُ البَواطن وتحرِّكُ شجيَّ السّواكنَ. هذا وقد نُسبَ السَّناءَ المَقصود والنور المنشودَ إلى الرَّسول المجيد، إشارَةً من الشيخ إلى أنْ لا جَمالَ ولا وصولَ ولا حقيقةَ إلاَّ باتباع سُنَنِه الباهرة والاقتداء بأخلاقه الطَّاهِرَة، فَمن نوره تَنقدحُ المَعارف بالضياء ومن سنائِه تَنفتح كنوزُ اللَّطائف بالسَّناء.

40- وَحِلْيَةَ بَهَاهُ

الحِليَةُ هي ما يُزَيِّنُ الظاهرَ من ذَهبٍ وجَوهرٍ كَريم، ولكنَّها لمَّا نُسبتْ إلَى بَهاء رَسول الله، صلَّى الله عليه وسلم، أي إلى حُسنِهِ الذاتيِّ وجمالِهِ القلبيِّ، صارَت كنايَةً عمَّا يُزيّنُ قلوبَ العارفين من اللَطائف المُنبَعثة من كَرَم الرسول الأمين. والشيخ المدنيَّ يسألُ المَولى تَعالَى أنْ يُزَيَّنَ ظواهِرَ الأولياء بِكريم الإشارات ولَطيف المعلومات وأنوارِ القُربات التي مَنَّ الله بها على نَبيّهِ في أعزِّ الأوقات، حتَّى ينالَ المؤمنون منها الحظّ الأوفى.

41- كَيْ يُسْقَى عَدَمِي بمَاءِ وُجُودهِ

أمَلُ السُّؤالِ ومَرامُ كُمّل الرِّجالِ أنْ يَتَفضّلُ اللهُ تَعالى عَلى صالِحِ المُؤمنين بالحياةِ الأبَديَّةِ، ويَتَكرَّمَ عَلَيهم بِنَفحة الوُجودِ الحقيقيَّة، بعدَ أنْ يَرفَعَهُم عن أنْفُسِهم بالكلّيَّة، ويَسيرَ بِهم نَحو الهُويَّة الأحَديَّة. والكلامُ تشبيهٌ للعَدم البشريِّ بأرْضٍ جَدباءَ، تنظرُ ماءً لإحْيائِها، أو بِشَجَرة عَجفاءَ، لا بدَّ مِن إرْوائها. فَوجودُ العالَمِ كَينونَةٌ وَهميّة رَيثَما تَزولُ، ولحظاتٌ خياليّة، مُنْتهى أمْرها غَيبَةٌ وأفُول. وأمَّا الحقُّ تعالى فَوصفُهُ القائم بذاتِهِ وجودٌ أبديٌّ وبَقاءٌ سَرمديٌّ، لا زَوالَ يَعتَريهِ، ولا زمانَ يُفنِيه. وقد شَبَّهَ الشيخ المدنيّ هذا الوجود الأحديّ بالماءِ الذي يَمدُّ الكائنات بِنَفَسِ الحَياة فيها، ويَهبُها نِعمَةَ الإيجادِ ويَرويها، ومِن زلالِ التَّوحيد يَسقيها، حتى تَدِبَّ فيها حياةٌ إنسيّة فانِية بها تُعرفُ حَياة الله الباقية، مِصداقًا لقوله تعالى: “وَجَعَلنَا مِن المَاءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ”. فإفاضة الوُجودِ تَنبجسُ مِن مَعينُ الحَيِّ المَعبود، ومِن جُودِه ينبثقُ كلُّ مَورودٍ، يُحْيِي رُفاتَ القلوبِ بعد مَماتها ويَنْشُرُ رَميمَ الأرواحَ بَعدَ وفاتِها.

42- وَتَنْتَعشَ رُوحي بعَذْبِ مَوْرُودِهِ،

وأمَّا غايَةُ السُّؤال الثانية فانتعاشُ الرُّوحِ بِماء التَّوحيد الصَّافي وارتواؤُها بِزلالِ العِشْقِ الوَافي، فالمَورود -وهو نَهرٌ يُورَد للشَّراب- استعارةٌ لِألطافِ اللهِ في أسْرارِ اجتِبائِهِ، ولحِكمِه في تَبارُكِهِ واعتلائهِ. فَمِن رَحمتِهِ الواسعة تَنبجسُ أنهارُ الحكْمَة والتَّوحيد، ومن أفْضالِه الرائعة، تَفيضُ مِياهُ العِزَّة والتَّفريد.

ولا حياةَ لِروحِ العارِف إلاَّ بِماء الإيمان زُلالاً صافيًا، وبنورِ الإحْسانِ مَوردًا شافيًا. وكلُّ صَلاة يُصلّيها المؤمِنُ الوَاصلُ، بل كلّ تَسبِيحَة يَتلوها المحسنُ الكاملُ إنَّما هي حياةٌ للقلوب تُنَوِّرُ أرْجاءَها، ورَاحَةٌ للرّوحِ تَعْرجُ أثْناءَها.

43- فَيَنْطَويَ فِي حُضُـوريَ غَيْبي

مُنتَهى آملِ الوُقوفِ لَدَى الكَريم الوَهَّابِ والتذلّل في حَضرة عَزيزِ الجَنابِ أنْ يَتَماهَى الغَيبُ والحُضورُ، حتى لاَ يَبقى إلاَّ المَولى المَذكور: وحينَها يَغيضُ البَحرُ المَسجور ويُطوى الرَّقُّ المَنشور. والحُضورُ والغَيبَة حالان للمُريد يَترَقَّى خِلالَهما في مَدارِج التوحيد ومَعارجِ التَّمجيد، فَهو إمَّا حاضِرٌ بإبْقاء الله له، أي: بإفاضَةِ أنوار الإدْراكِ عَلَيْه حتَّى يُبصِرَ دلائلَ الوَحدانيَّة ويتَأمَّلَ أسرَار الربوبيّة. وإمَّا غائِبٌ عن ذاتِهِ وحِسِّهِ، مُنْطوٍ في جلالةِ اللهِ وقُدْسِهِ، مُستَغْرَقٌ في رَقِائِق أنْسِه.

ويرجو الشيخ المدنيّ منَ العليِّ الأعْلى أنْ يُوَحِّدَ غَيبَهُ وحضورَهُ، ويَطْوي وُرودَهُ وصدورَهُ حتى يَتَلاشَى الحالانِ، ولا تَبقى إلا أنوارُ المَولى الدَّيَّان. وهذا المَعنى العزيز يَنظرُ إلى قَولِه تعالى: ” كلٌّ شَيءٍ هالكٌ وَيَبقَى وَجُهُ رَبِّكَ “، ذلكَ أنَّ ضَالَّةَ المُؤمِن المَنشودَة، وغايَتَه المَقصودَة أن تَتَبَدَّدَ الأوقاتُ والأحْوال، وتَتداخَلُ الآفاقُ والآجال حتى لا يَصْمدَ شُهودٌ ولا مَقال. وهذا هو حالُ سيّدُ الوجود، عَليهِ الصّلاة والسلام، حينَ كاشَفَهُ بكلامه القديمِ ذو الجلال والإكرام، آنَ فَنَتِ أمامَ ناظريهِ الرّسومُ والحُدود فَتَاهَ عَن غَيبٍ وشُهودٍ.

44- فَأَقُولَ كَقَوْلهِ:”لِي وَقْتٌ لَا يَسَعُنِي فِيهِ إلاَّ رَبِّي،

ومِن ثَمراتِ هذه الأحْوالِ الربَّانيَة الرَّاقِيَة وآثارِها الباقِيَة أنْ يَصِلَ المُؤمنُ المُحسنُ إلى مَقامٍ لا يَعودُ يَقْنَعُ فيهِ بِغَيْر اللهِ، ولا يَرْويِه إلاَّ شَرابٌ يُخْتَمُ مِن نَوالِ يَداه. فَتصيرَ آنذاكَ الخلائقُ كلُّهَا حُجُبًا وأستارًا، بلْ ظلماتٍ وأغْيارًا.
ويُمثّل الشيخُ المَدنيُّ هذه الأحوال بِكلامٍ مَنسوبٍ إلَى النبيء، عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلام، أو إلى غَيرِهِ مِن العارفينَ، مَفادُه أنَّ مِن الأوقاتِ وَقتًا لا يَسَعُ فيه المؤمنَ إلاَّ حُبُّ الله والسجودُ بَيْنَ يَدَيْهِ، والتذلُّلُ إلَيهِ، شَوقًا وصِدْقًا، وهلْ للعالَمينَ مِن وجودٍ إذا تَجَلَّت أنوارُ المَعبود. بَل تَفْنَى الأوقاتُ والحُدودُ، ولاَ تَبْقَى إلاَّ رَحْمَة رَبِّي التي ” وَسِعَتْ كُلَّ شيءٍ “.

45- وَصَلّ وَسَلّم عَلَيْهِ عَدَدَ فَيْضِكَ الرَّحْمَانِيّ،

عَوْدٌ إلى الدُّعاء والضَّراعَة حتَّى يَتَكَرَّمَ اللهُ تَعالَى عَلى حَبِيبِهِ مُحَمّدٍ، صلَّى الله عَلَيه وسلّم، بِرَفع القَدْرِ الشَّريفِ، ويُنَوِّرَهُ بِمُشاهدة الحقِّ المُنيف، وذلكَ بِأنْ يُصَلِّيَ ويُسَلِّمَ عَليْه عَدَّ مَقاديرِ الفَيْضِ الرَّحمانِيّ الذي لا يُحَدُّ ولا يُعَدُّ. والفَيضُ هو الجود المُتَنَزِّلُ منْ صِفَة الكَرَم القائم بِذاتِ اللهِ في القِدَم، فَلا مِقدارَ له فَيُضَاهَى، ولا عَدَدَ لَه فَيَتَناهَى.

ومِن الرَّقائق أنَّ الشيخَ المدنيَّ يصفُ هذَا الفيضَ بالرَّحْمَة، لأنَّها أخصّ أوصافِ العَطاء الربَّانيِّ المُتَنَزِّلِ من خَزينَة الرَّأفَةِ بالعِباد كُلّهم، بَرِّهِم وعاصِيهم، كَما جاء في قَولِه تعالى: ” كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا “.

ولذا كانت الصلاة عَلَيه من الله فَيْضًا رَحمانِيًّا نابِعًا مِن مُكْتَنَزِ الرَّحمَة الأزليّ. وحقيقتُها أنْ يَتَجَلَّى الله بألطافِهِ الخَفيَّة وأنوارِهِ الذاتيّة على قلب الحقيقة المُحَمَّديَّة، وبِرَأفةِ الوَدودِ يَسْقيهَا، ومِن كؤوس الشُّهودِ يَرويهَا.

46- المُتَدَفِّقِ مِنْ عَالَمِ الْجَبَرُوتِ عَلَى هَذَا الْعَالَمِ الْفَانِي،

وَصْفٌ بَديعٌ لِفُيوض الرَّحمَةِ الهاطِلاتِ مِن سَحائِبِ الاقْتِدار، المُنَهَلَّةِ على عَوالِم الفَناءِ والانْكسارِ. وهذا الوصفُ تَكملةٌ لسؤال الله تعالى أنْ يُصَلِّيَ ويُسَلِّمَ على النَّبيِّ الأكرم، مقدارَ التَّجليات الربَّانيَة الجارية مِن بِحارِ العزَّةِ والجَبَروت، عَلى حَادِثاتِ الفَناء والنَّاسوتِ. وبِما أنَّ ذلكَ التَّدَفُّقَ الرَّحْمانِيَّ لا يُدرَكُ بِبَيان، ولا يُوصفُ بِحَدٍّ ولا لِسانٍ، كانَ الكلامُ إشارةً إلى سَوابِغِ النِّعَمِ الربَّانيَّة التي لا تَتَناهى، حينَ تَشمَل رُوحَ الحقيقة المحمديّة وبها تَتبَاهَى.

وأمَّا وَصفُ العَالَمِ بالفَناء فتَذكيرٌ بِأنَّهُ إلَى زَوالٍ، أحلامٌ ومَحْضُ خَيالٍ. بَيدَ أنَّ زِينَتَهُ الفاخِرة التي أفاضَتْ عَلَيهِ جودًا ونورًا، وحَبَتْهُ جَلالاً وسُرورًا، إنَّما هي حُلول الشَّخص المُحَمَّديّ المُبارَكِ فيه، وتَجلِّي الله تَعالَى بكلامه عَلَيهِ. وللهِ درُّ القائلِ: ” مُحمّدٌ زِينَةُ الدّنيا وبَهجُتها “.

47- فَقُلْتَ: “الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى

لَمَّا خَلقَ الرّحمنُ تَعالى الأكوانَ وسَوَّاها، وأغْطَشَ لَيلَها وأبْلجَ ضُحاها، استوتْ يَدُ الاقْتِدار عَلَيها، فَصارَ جَميعُها تَحتَ نَظرِ الاسْتِيلاء، مَقهورًا بِجلالِ الاسْتِواء. ويَرَى عُلماءُ الأشاعرة أنَّ العرشَ كِنايَةٌ عَن السَّمواتِ والأرَضين وما بَينَهما. وأمَّا الاستواء فَهو إيماءٌ لِصفات القدرة والاسْتيلاء، والجَبروت والاعتلاء. واستواؤُهُ تَعالَى على عَرشِ الأكوان هو مُطلَقُ تَصَرُّفِه فيها بِما يَكونُ وبمَا كانَ. وهو عندَ أهلِ الذَّوق وجودُ الحقِّ المُبين في كلِّ مَظاهِر الوجود، وتعاليهِ في ذُرى الشّهود، دونَ حدٍّ ولا جِهة ولا مَكان.

وحِكمة إيرادِ هذه الآية الكريمة هنا أنَّ الشيخَ المدنيَّ يَسأل اللهَ تَعالى أن يُصلّيَ على حَبيبه الأسنى بما يناسبُ عظمةَ هذا الاستواء، الذي لا تَحويه الأقطار، ولَيسَ لَه حدٌّ ولا مِقدار، وذلك حتَّى تَكونَ الصلاة عَلَيه إلى مَا لا نِهايَةَ للكَمالات .

48- فَاخْتَفَى عَدَمُ الْخَلْقِ فِي وُجُودِكَ وانْطَوَى،

بعدَ أن ثبتَ الاستواءُ الرَّحمانيُّ الأعْظَم، زالَ وهمُ وجودِ الأَكوان، وتَلاشت كلُّها أمامَ عَظَمِة الرَّبِّ الديَّان، فَلَم يبقَ إلاَّ الحيُّ القَيّوم، قائمًا بِذاتِه، مُسْتَغْنيًا بِصفاتِه، ظاهرًا في تَجَلِّياتِه. وأمَّا الخلق فَعَدمٌ وريحُ أوهامٍ، خَيالاتٌ وأضغاثُ أحْلام، صَرَّحَ الشيخ المدنيُّ بِتلاشيهَا، وانطوائها أمامَ جبروت الحَضرَة الأحدية وتعاليها، فالله تعالى هو المُتَفَرِّدُ بالمُلك والاستيلاء، المُتَوَحِّدُ بالأزليَّة والبَقاء، وما سوى ذلكَ فَعَدمٌ وأفولٌ وأشكالٌ سرعانَ ما تَزول: ” كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ ” .

49- فَقُلْنَا لاَ مَوْجُودَ غَيْرُكَ،

شهادةٌ فاخِرَةٌ عَصْماء، لا تَصدرُ إلا عَن قُلوبٍ طاهِرَةٍ صَفاء، وأَلْسُن عَطِرَةٍ بِالثَّناء. ومَفادُها الإقْرار الكاملُ بأنَّ الوجودَ المُطلقَ الحقَّ إنَّما هو لِله، وأنَّ الفناءَ كلُّ ما سِواه. وسِرُّ هَذه الشَّهادَة أنَّها مُنْتَهى آمالِ العارِفين، الذينَ بها يُجَدِّدونَ بها أنوارَ البَيعَةِ الأولى: ” يومَ ألَستُ رَبَّ العالمينَ “، ويُحْيُونَ عَبْرَها سَوالِفَ العُهود النَّضِرَة، والمَواثيقِ العَطِرَة، الصَّادرة عَنهم في كَمالِ الشُّهود: يُرَدِّدونَ أنَّ الوجودَ الحقَّ إنَّما هو ذاتُ الله، وأنَّ الغيرَ عَدَمٌ وفناءٌ، خَيالٌ وهَباء.
فَلَمَّا صَفا كَأسُ الشَّراب، ورَاقَ عَلِيُّ الخِطابُ، صَرَّحَ الشَّيخُ المَدنيُّ هُنا أنَّ المَوجودَ الأوحدَ، والمَعبودَ الأمْجدَ إنَّما هو الواحد الأحَدُ، المُفْرَد الصَّمد الذي ” لَمْ يَلِد ولَم يُولَد ولَمْ يَكُن لَه كُفُؤًا أحَد “، بالوجودِ مُتَفَرِّدًا، وبالوَحدانِيّة مُتَعَبَّدًا.

50- وَمَا فِي الشُّهُودِ إلاَّ بِرُّكَ وخَيْرُكَ،

مُتابَعَةٌ لِشَهادَةِ الشَّاهِدين مِن العارفينَ، ومُواصَلَةٌ لِثَناءِ الحامِدينَ منْ أهْلِ اليَقين. وفيها إقْرارٌ- وارِدٌ بِصيغَة القَصْر – أنَّ شهودَ القلب لاَ يُبْصرُ إلاَّ فُيوضَاتِ المَولى الكريم، وأنَّه لَيسَ أمامَ عُيون الرُّوح إلاَّ البِرُّ الرَّحمانيُّ العَميم، والفَيضُ الربَّانيُّ العَظيم: فَتجليّاتُه تعالى كلُّها خَيرٌ وجَمالٌ، لَطافَةٌ وَكرَامَةٌ وعِزُّ دَلال. وحتَّى ما قَدْ يُرى ابتداءً أنَّهُ ابتلاءٌ وجَلالٌ فَهو عَين الرَّحمة بالطَّائعين وذَاتُ الفَضلِ للصَّابرينَ.
وتَنضَحُ هذه الشَّهادة الفاخِرَة بِمُطلَق المَحَبَّة والسُّرور وآياتِ العِرفان والحُبور. إذْ لا يَرىَ البِرَّ في الآفاق مُتَجَلِّيًا إلاَّ مَن تَحَلَّى بِقلادَةِ العِشقِ والإيمان، وتَزَيَّنَ بالطَّاعَة والشكرِ والامْتِنان.

51- فَاحْجُبِ اللَّهُمَّ بَصَائِرَنَا عَنِ الْعَدَمِ،

عَوْدٌ إلَى لَطائِفِ الدُّعَاء، ونَسائِم التَوَسُّلِ والرَّجاء. واللهَ المَسؤولَ أنْ يَحجُبَ قُلوبَ المؤمنينَ فلا تَرى وجودَ الكَائِنات ولا تتعلّقَ بصَنيعِ الحادِثَاتِ. فَلا الرَّجاءُ فيها يُغنِي، ولا الخَوفُ مِنها يَحْمي. فَالأكوانُ وما فيها عَدَمٌ (أيْ لاَ وجودَ حقيقيَّ لها) والتَّعلقُ بها من الإشْراكِ الخَفيِّ الذي يبعد القلوبَ عن بَاريها ويحجبُ الأفئدةَ عن مُنْشيها.
وبِما أنَّ الإنسانَ قَد يَغفلُ فَيَأمْلُ قلبُهُ في غيرِ الله أو يطمعُ فيما سِواه، طَلَبَ الشيخ المدنيُّ مِن العَليِّ القَدير أنْ يَصرفَ بَصَرَهُ وبَصيرَتَهُ عَن كُلِّ حادِثٍ مَعدوم، وخَلْقٍ مَذموم، حَتَّى لاَ يَتصل قَلبُهُ إلاَّ بالحَيِّ القَيُّوم الذي ” لاَ تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْم “.

52- وَكَحِّلْ أَبْصَارَنَا بنُورِ الْقِدَمِ،

مُواصَلَةٌ لِرَقيقِ الأدْعِيَة ولَطيفِ السُّؤال، تَذَلُّلاً للعَزيزِ المُتَعالِي، رَبِّ العِزَّةِ والجَلالِ. وفيهِ يَمُدُّ الشيخُ المَدنيُّ أكُفَّ الضَّراعَةِ والرَّجاء، لِبارِئِ الأرْضِ والسَّماءِ، حَتَّى يُكَحِّلَ أبْصارَ العارفينَ بما فِي القِدَمِ مِن الأنْوارِ، التي لا يُناهيها المِقْدار. و”تَكْحيلُ الأبْصارِ” كِنايَةٌ عن لَطائِف المُشاهَدات ونَسائِم المُكاشَفات، التي يَتَفَضَّلُ بِها المَولى الحَبيب عَلى كلِّ عَبدٍ قَريبٍ. وأمَّا “نُورُ القِدَمِ” فإشارَةٌ إلى صِفَةِ الأوَّلِية الواجِبَةِ لِله، فَهو المَوجُود بلا بِدايَة، الباقي بِلا نِهايَة. ” هو الأوَّلُ والآخرُ ” (الحديد: 3)
ويَدعو الناظمُ رَبَّهُ تَعالَى أنْ يُجَنِّبَ بَصرَهُ النَّظرَ إلى الكائِنات، والاعْتِمادَ على الحادِثاتِ، حتَّى يَتَمَتّعَ بِشهودِ الصِّفاتِ ومُخاطَبَةِ الذات. وصِفاتُ الله كلُّها قَديمة قِدَمَ الذَّات، قائمةٌ بِهِ تَعَالَى، دونَ تَحديدٍ بداياتٍ، أو تَقيِيد نِهاياتٍ أو تَحْيِيزِ جِهاتٍ. فَلا مَرُّ الأزْمان يُفنِيها، ولاَ كرُّ الأعْصارِ يُبْلِيها. وَمُرادُ العارفينَ الغَيبَة عَمَّا فَيها، والبَقاءُ بالله، مُنْشيها وباريهَا. وهَذه هي ضالةُ ساداتِ الرّجال الذين تَعَلَّقت هِمَّتُهُم بِذاتِ الوَاحِدِ المُتعالي.

53- وأَوْقِدْ لَنَا نُورَ التَّوْحِيدِ مِنْ شَجَرَةِ : “أَيْنَمَا تُوَلّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ “

مُتابَعَةٌ للدُّعاء يَسْألُ فيه الشيخُ المَدنيُّ بديعَ الأرَضينَ والسَّماء أن يُفيضَ عَلَيه أنوارَ التَّوحيد الزَّاهية فَتَعْبُقُ الأرْجاءُ بأسْرار التَّمجيد الصَّافية، بَعدَ أنْ تَتَّقِدَ مِن وَهَج الآياتِ الكُبْرى وَتَتَنَوَّرُ مِن سَناها المَظاهِر الغَرَّاء. والشَّجرة التي تَتَأتَّى مِنها الأغْصان هي قَول العَلِيِّ الديان: ” أيْنَما تُوَلُّوا ” (البقرة: 115) وهو تشبيهٌ رَائعٌ لهذه الآيَة بالشَّجَرة، ذاتِ الأغصان المُخْضَرَّة التي تَصير وَقودًا يَنْبَعث مِنه نورُ التوحيد، فآياتُ الكِتابِ المَجيد مِشكاةٌ يُوقد منها نورُ المعارفِ فَيَنتشرُ عَلى القلوب الصّادقة فَيُنوِّرهَا. والضياء دالٌّ عَلى مُطلَق الوُجود واسْتِغراق الشُّهودِ في ذات الحيِّ المَعبود.
وهذا الكلام شَطْحَة ربَّانية استوْحاها الشيخُ من قصَّةِ كَليم الله موسى حينَ آنس نارًا في طور سينا، أو استلهمَها من آيَةِ النّور: ” يوقدُ مِن شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ ” يَأمله الشيخُ ويَنْشُدُه هو خالصُ التَّوحيد وزُبْدَةُ التَّجريد، ثَنَاءً على المَولى المجيد.

54- حَتَّى لاَ نَرْضَى بِصُحْبَةِ غَيْرِكَ وَلاَ نَرَاهُ.

غايَةُ المَأمولِ وثَمْرَةُ الوُصول الاكتفاءُ بمُطْلَقِ التَّوحيد والانْقِطاعُ إلى سُبُحاتِ التَّمجيد، حَتَّى لاَ تَتَعَلَّقَ الهِمَّة بِغير اللهِ، ولا تَرنو إلى مَنْ سِواهُ، ولاَ تَأنَسَ بما عَداهُ، ولا تَحِنُّ إلاَّ إلَى سَناه، ولا تُبصرُ في الوجودِ غَيرَهُ ولاَ تَراهُ، ولا تَتَمَلَّى سِرًّا إلاَّ إنْ فَاض مِن كُنْهِ مَعْنَاهُ، ولا حُسْنًا إلاَّ ما انْفَلَقَ مِن إصْباح بَهاهُ. فَالغَيبَةُ عن السِّوى والانقطاعُ لِصادق الهَوى يكونانِ بالانْصِراف عَن كلَّ حَادِثاتِ الوَرى.
والتَّعبير ” بالصُّحْبَة لِله ” مُسْتَمدٌّ من الحَديثِ القُدسيّ: ” أنَا جَليسُ مَن ذَكَرَنِي “. فَلَيْسَت هي بِمُصاحَبَةِ إحْساسٍ، ولاَ مُجالَسَة تَماسٍ، وإنَّما هي أنْوارُ الإخْلاص لِرَبِّ النَّاس، مَلكِ الناس، إلاهِ النَّاس، العالِمِ بالأنْفاسِ والحاكِم فيهم بالقِسطاس.
وثمرة ذلكَ كله ألاَّ يَرَى المؤمنُ في العَالَم مُتَصرِّفًا ولاَ فاعِلاً سوى الله تعالى، وكلُّ ما يَقع فيه هو مِن آثارِ إرَادَةِ اللهِ بِتَأييدِهِ وتَوفيقِهِ أو بِخِذلانِه وتَرْكهِ.

55- الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا نُورَ الْوُجُودِ

بَعْدَ الهُيامِ والاسْتِغْراق في شَطَحاتِ الأشْواق والأذْواق، يَعودُ الناظمُ إلَى الصَّلاةِ والسَّلام على سَيّدِ الأنامِ، المُصْطَفى الإمام، عَلَيْه من الله أفضلُ صَلاةٍ وأزكى سَلامٍ، وإلى الثَّناءِ عَلَيْهِ بما يليقُ بمقامِهِ العالي وَوَصْفِهِ الغالي.

وهنا يَتَوَجَّه الشيخُ المَدنيُّ إلَى رَسولِ الله بالخِطاب المُباشِر، دَاعيًا إيَّاهُ: ” نُورَ الوُجود “، مادِحًا مصطفاهُ المَحمود، ومُثْنيًا على أجملِ مَوجودٍ. والنُّور يَعني الضّياءَ والإشراقَ وإفاضَةَ الإدْراكِ على سائر الكائنات. فَسَيّدُ السادات هو الرَحْمَةُ المُهدَاةُ للعالمين، والنُّور المضيء على سائرِ الأكوان، في سائِر الأزْمان.

وحَقيقَةُ نُبُوَّته أنها إشراقٌ لِأنوار الذّات العَليّة، عَلى هَذه الأكْوان الوُجوديَّة، بِواسَطةِ الجَوهرَة المُصطَفويَّة. وهو كلامٌ مستمدٌّ من قوله تعالى: ” قَد جاءَكُم مِن اللهِ نورٌ “

56- وَعَيْنَ الْوُجُودِ

في لِسانِ العَرب، تحملُ كَلمِةُ “العَين” مَعانٍ عَديدَة يشيرُ الشيخُ المدنيّ – في وَصفِهِ للحُسنِ المُحَمَّديِّ- إلَى بَعضِها وهذا قَبسٌ من تآويلاتها:

– فَعينُ الوُجود حَقيقَتهُ الأصْليّة الجَوهريّة. وَهلْ للوُجود من مَعنًى إن لَم يَكنِ الحَبيبُ المُصْطَفى سرَّهُ وكُنْهَهُ العميق، إذْ مِن نُورِهِ تَستَمِدَّ الكائنات بَهاهَا، وبِفَضله استوى للحياة مَعنَاهَا.

– وعَينُ الوُجود المَنبَعُ الصَّافي والمَنهلُ الوافي الذي يَردُ عَليهِ المُؤمنونَ: يَروونَ ظَمَأَ نُفُوسِهِمْ ويُطَهِّرونَها من الأدران بِمَحَبَّة سَيِّدِ وَلَدِ عَدنانَ.

– وعين الوجود ذاتُه الفِعْلِيّة وما عداه من الحادِثات فَعَدَمٌ وَهَباءٌ. وهل للكائنات مِن حَقيقَةٍ خارجَ البَهاء المُحَمَّديّ الذي أفاضَ عَليهَا كلَّ حَقيقَة وأهدى إليها كلَّ صَفاءٍ ورُواء.

57- وَمِفْتَاحَ الشُّهُودِ

إذْ بِيَد رَسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسلَّم، مِفتاحُ المَعارفِ حادِثِها وأثِيلِها، ومن رَاحَتَيْهِ يَنْبعُ صَفوُ المَعاني، دَقيقِها وجَليلِها. وما كانَ لِأحَدٍ أنْ يَشهَد جَميلَ صُنعِ الله في الكائِنات، ولا أن يَنْعَم بِقُربِهِ في الصَّالِحات، إلاَّ إذا دَخَلَ من باب الرَّسول، فَفُتِحَت له مَباهجُ القَبول ، فهو المِفْتاح الأعْظَم الذي به يَنفَتِحُ كلُّ مُغلَقٍ من المَعارِف والعِبارَات، وهو الوسيلة التي بِها يُدْركُ -في الشُّهودِ- عزُّ المَقامات، وتُنالُ -عند الملاقاة- أسرارُ المُخاطَبات . فأنْعِمْ بنظرةٍ كانَ رسولُ الله مفتاحُها، وأكْرمْ بِمُشاهَدَةٍ لِلهِ كانَ، عَليْهِ الصلاةُ والسلام، راحُها وَمَراحُهَا.

58- أَيُّهَا الْمَظْهَرُ الأَتَمُّ

المَظهر اسمُ مَكانٍ للظُّهورِ، أيْ: التَّجَليّ. وهَذا الوَصفُ الجميل يَعني أنَّ النَّبيَّ، عَلَيه الصَّلاةُ والسَّلام، هو الكائنُ الذي اكتَملَت فيه مَظاهرُ حِكمَةِ اللهِ، وأنْوارُ كلامِهِ وقُدرَتِهِ وعُلاه. فالمِثالُ المُحَمَّديّ، بأفعالِهِ الطَّاهِرة، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم، وأقوالِهِ الفاخِرَة، وأحْوالِه الباهِرَة، يُظْهِر على أتَمِّ وَجهٍ وأكْمَلهِ حِكمَةَ الاصطفاء الربَّانيّ لَه.

والمعلوم أنَّ الأكوانَ إنما تَجليّاتٌ لحكمة الله، وأنَّ أجملَ تلكَ التَّجليَّات، وأرفع المَظاهر والتلوّنات إنَّما هو هذا البَدرُ المُحَمَّديُّ الأرقى الذي تَركَّزت في ذاته الشريفة كلُّ صِفاتِ الكَمَال: فَهو مُكْتَنزُها الأعلى، بَل ومُستَودَعُها الأوفى. مِنه بَرَزَتْ للبَصائِرِ الحقائقُ، وبِه انْجلت الرَّقائقُ من أصْدَاف الخَفايا والدَّقائِق.

59- وَالنُّورُ الأَكْمَلُ الأَعَمُّ،

تَشبيهٌ ثانٍ لَهُ، صلَّى الله عَلَيه وسلَّم، بالنّور، أيْ: الضّياءُ الهادي المتَّسِمُ بصفاتِ الكَمال والتَّمام المُطْلَقَيْنِ. ومَا مِن نورٍ يَفيض على الأكْوان، إلاَّ وهوَ من أنوارِهِ الشريفة سارٍ، وما مِنْ سرٍّ يَسْري في الجَنانِ إلاّ وهو مِن بَرَكاتِهِ مُقْتَبَسٌ وعَارٍ (مُقْتَرَضٌ)، وما مِن مهجةٍ صادِقَة إلاَّ وقد عَمَّهَا نورُ النبي المُختار، عليه الصلاة والسلام مَدى الأعْصارِ.

والنبي عليه الصلاة والسلام نورٌ كاملٌ، وضِياءٌ شاملٌ لأنَّ الله بهِ هَدَى العَالمينَ، ونَوَّر قلوب العارفين، وصَفَّى بسرّهِ المُبارَك بَواطِنَ الطالبين، وقطعَ غَفلاتِ المُعانِدين. وهوَ مَنهل اليقين، وسرّ الحقيقة والتَّمكين، ومنْهُ تَشِعُّ الأرواح بِوهَجِ العرفانِ وببركاتِه تفيض الأسرار على الوِجْدَان.

60- يَا مَنْ أُسْرِيَ بِكَ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى

مُتابَعَةٌ لِمَديحِ المُصطفى، عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلام، وفيها إشادَةٌ بأجَلِّ صِفاتِهِ وأفْخرِ مُعْجِزاتِهِ. وهُنا يَذكرُ الشيخُ المَدَنِيّ أعْظَمَ تَشريفٍ ربَّانيّ لِسَيِّدِ الأنامِ إذْ أسْرَى بهِ مَولاهُ إلى أرْفَعِ الدَّرَجاتِ وأنالَهُ ألْطَفَ الكَرامَات، حينَ عَرَجَ به إلَى مُنْتَهى الكَمالاتِ، وأنالَهُ غَايَةَ الفَضْلِ والمَثوبَاتِ، بَعدَ مجاوزة أقاصِي السَّمَاوَات.
ومِن أرَقِّ ما قيلَ في تَعريفِ ” سِدْرَةِ المُنْتَهى ” أنَّها العلامَة الفارِقَة بَيْنَ عالَمَيْ الرَّحَموت والنَّاسوتِ، وأنَّها أعْلى ذُرْوَةٍ يُمكِنُ لِذَاتٍ بَشريَّة أن تَصلَ إلَيهَا، فَدُونَها يَحْتَرقُ نورًا كُلُّ مَن أبعدَ غَورًا، أو رَامَ مِنها دُنُوًّا، وهنالِكَ يَنقَطعُ حسُّ كلِّ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، ومَخلوقٍ مُحَبَّبٍ، حتَّى أمينُ الوَحْي جِبريل تَراجَع ثَمَّةَ واعتَذَر، وتَرَفّقَ في تَرْكِ سَيِّدِ البَشَر، ولكنْ مِنهَا ارتَقى الحَبيبُ وَحْدهُ يَختَرق حُجْبَ الأنْوار، ويَقطَع مَراحِلَ الأسْرار، حتَّى فازَ برؤية الواحِدِ القَهَّار، وتَمَتَّعت مُقلتَاهُ بِمُشاهَدَة ذلكَ الجَناب، واستَمعَ منهُ إلَى لَذيذ الخِطاب، دونَ واسِطَةٍ ولا حِجَابٍ.

61- حَتَّى كُنْتَ “قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنىَ “،

إشارَةٌ لَطيفَة إلى مَقام الدّنوِّ والاقْتِراب، الذي تَشَرَّفَ بِهِ سَيِّدُ الأحْباب، عَلَيهِ الصلاة والسَّلام، لَيلَة الوصلِ والتَّداني. والدّنوُّ مَقَامٌ حارَت في حُسنهِ العُقول، وتَاهت في كُنْهِه النُّقول. وحَقيقَتُهُ مِنَ الكَنزِيّة مَداها، وفيها استشعرَ النَّبيُّ أنْوارَ الذّاتِ العَلِيَّة في عزِّ عُلاهَا، فَأخَذتْه عَنهُ بالكُليّة، وأفنتْ فيهِ كُلَّ أيْنِيَّة وبَيْنِيَّةٍ، حَتَّى نالَ الحبيبُ شَرَفَ المُخاطَبَةِ جِهارًا، وحاوَرَهُ المَحبوبُ حِوارًا، وَكاشَفَهُ أَطْوَارًا، فَلاَ مَسَافَةَ ثَمَّةَ فَيَطْويها، ولا جِهَةَ فَيَرْتَئيها، وإنَّما اللهُ، الواحدُ الأحَد، المُفْرَدُ الصَّمَد، كَائنٌ بِلا حَدٍّ ولا مَكان، والحَبيبُ قَريبٌ منهُ مُتَدَانٍ، فَسَرَى بَيْنَهُما سرٌّ لا يُدرَكُ بِبَيانٍ، ولاَ يَنالُهُ إنْسَان.

62- فَانْطَوَى لَيْلُ الْبَشَرِيَّةِ فِي نَهَارِ تِلْكَ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ،

هذه الجُمْلَةُ الفاخِرَةُ تَمثيلٌ بَديعٌ لِحالَيْ الفَناءِ والبَقاءِ، اللَّذَيْنِ فازَ بِهما سَيِّدُ الأنْبِياء وتاجُ الأوْلِياء. وفيهِ يُقارِنُ الشَّيخُ المَدَنيُّ ذلكَ التَّلاقي الرَّبَّانيَّ، والفَيضَ النُّورانِيَّ، بانْطواءِ لَيلٍ ساجٍ، في نَهارٍ صَاحٍ. ويَستعيدُ هذَا التَّمثيلُ لَحْظَةَ استِغراقِ الفُؤادِ الأُحمَديّ بِأنْوارِ الواحِدِ الأحَدِ، ويُقارِنُهُ بِلَحْظَةَ استِيلاءِ نورِ الشَّمس على ظلمات الليلِ، لَمَّا يَنفجرُ الإصْباحُ من سُجُفِهَا.
وكأنَّ قَلبَ الرَّسولُ – بِما هو كائنٌ حادِثٌ – تَسامَى من بَشَريَّتِهِ الكَثيفة حَتَّى يَتَناسبَ معَ نورانِيَّةِ الكلام اللَّطيفَة، حينَ أوْحى إلَيْهِ اللهُ ما أوْحَى، وكَشفَ لَه عن سُبحاتِ وَجهِهِ، وأدْنَى. والكلامُ هنَا تَقريبٌ للأذْهان بِما حَصَلَ لَيلَتَئِذٍ مِن عَظيم المَعاني: تَدَرَّجَ الحَبيبُ في مَقامَاتِ الفَنَاء والبَقاء، فأشْرَقَت عَلَيهِ شُموسُ التَّوحيد والإيحاء، وانْجَلَت ظلماتِ الخَلق والعَدَمِ الهَبَاء.

63- “فَأَوْحَى إِلَيْكَ مَا أَوْحَى “

تذكيرٌ بِما وَقَعَ ليلةَ الإسْراء مِن الوَحْي واللِّقَاء، وإيماءٌ إلى ما كانَ فيها من شَرَفِ المُناجَاة والارْتِقاء. وقد أفَادَت هذه الآيَةُ المُضَمَّنَةُ هُنا خَبَرَيْن عَزيزَيْن: أحدَهُما أرَقُّ منَ الآخَر وأغْلى. فالأوَّل تَذكيرٌ بِأَنَّ اللهَ شَرَّفَ نَبيَّهُ الكَريمَ بتلقِّي كلامِهِ القَديم، دونَ واسطَةٍ ولا حِجابٍ، بَعدَ مُجاوَزَة سِدْرَةِ المُنتَهى وسائِرِ الأعْتاب، فَلَم يبقَ مَلَكٌ مُقَرَّب إلاَّ وانقطعَ عن ذاكَ العُلَى ومِنهُ تَهَيَّبَ، وثَمَّةَ سَجَدَ النَّبيُّ لِبارِئِهِ على بساط العُبودِيَّة، وتَلَقَّى منه آيَاتِ الرُّبوبِيَّة فـَـ” مَا زَاغ البَصَرُ ومَا طَغَى ” .
والثاني إعلامٌ بِأنَّ ما أوحاهُ اللهُ لِحَبيبِهِ المُجْتَبَى، وخَليلِهِ المُصطَفَى، هو سِرٌّ مِن الأسرار، غَيبٌ بلا سماءٍ ولا قَرار، لاَ يَطَّلعُ عَليه مِن المخلوقِين أحَدٌ، ولا يَنالُهُ وإن طالَ بهِ الأمَد، لذلكَ جيءَ بالمَوصول “ما” حتى يُفيدَ شُمولَ التَّداني والإسْرَار، واستِغراقَ الفؤادِ النبويّ بِعَلِيِّ الأنْوار. ” لَقَد رَأى مِن آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى “

64- وانْبَعَثَتْ إلَيْنَاَ أَشِعَّةُ ذَلِكَ النَّهَارِ،

عَبَّر الشيخ المدنيّ عن لِقاء الله تعالى–ليلةَ المعراج- نَبِيَّهُ وصَفِيَّهُ، صلَّى الله عليه وسلم، بالنَّهار. وَوَجْهُ الشَّبَه الإشراقُ والضياءُ والحَياة. ثمَّ بَيَّنَ أنَّ أشعَّةَ تلك الملاقاة وأنوارَها أطلَّت على المؤمنين عامَّةً وعلى العارِفينَ خاصَّةً. ورُبَّما كانت هذه الاستعارة العَزيزَة إشارةً الى هِبَة الصلاة التي فُرضت لَيلَتَئِذٍ، أو إلى لَطائفِ العُلوم الغَيبِيَّة التي حَصلَ عليها النبي، صلَّى الله عليه وسلم، وقْتَها جِهارًا ومُكاشفة، فَبلَّغها إلى أمَّتِهِ، فكلُّ نورٍ يناله المُتَّقونَ هُو من بَركات تلكَ المُناجاة المُشرقة التي جعلتِ الكَونَ نَهارًا أنْوَرًا.

65- وَأَشْرَقَتْ عَلَى عَدَمِنَا الشُّمُوسُ مِنْكَ والأَقْمَارُ،

عَودٌ إلَى وَصْفِ بَرَكَاتِ تلكَ اللَّحظَة الخالدَة والنَّفحَةِ الآبِدَةِ، حينَ أشرقَت شُموسُ المَعرفَةِ وأقمارُها – وهي كِنايَةٌ عن أنْوارُ الحَضْرَة الربَّانِيَّة- عَلَى سَائِر المُؤمنينَ بالهِدايَة، وعلى خَاصَّةِ العَارفينَ بالرِّعايَة، ثمَّ عَلَى أهْلِ الخُصوصِيَّة مِنَ المُقَرَّبينَ بالعِنايَة.
إلاَّ أنَّ النَّاظمَ شَبَّهَهُمْ جَميعًا بِالعَدَم إيماءً إلَى أنَّ وُجودَهم وَهْمِيٌّ، لاَ حَقيقةَ له، إذَا تَجلَّى بجلالهِ الوَاحِدُ القَهَّار، مَن سَجَدَت لِسَطْوَتهِ كلُّ الحادثاتِ والآثَار.

66- فَوُجُودُنَا وُجُودُكَ

كَلامٌ عَزيزٌ من مَعدَنِ المَعرفة مَأتَاهُ وإليها مرجعه ومُنْتَمَاهُ. ويُفْهَم بِطَريقَتَيْن:
– الأولى: وُجودُ الحادِثات كلِّها مُسْتَمَدٌّ مِن وُجودِ الله القديم الأقدم. إذْ لَوْ لَمْ يَتَجَلَّ اللهُ عليها بِنِعمة الإيجادِ، ولم يُشَرِّفْها بِكَرَمِ الإظْهار، لَبَقيت في غَيبها الأشياء ولَظلّت في عالَم العَماء.

– الثانية: لا يَكون لِوجود العارفين مِن مَعنًى إلا إذا كانَ خالِصًا للهِ، فانيًا في بقاءِ الله، مُنطويًا بِنورِه عَمَّن سِواه. وكلُّ مَا خَلا اللهَ باطلٌ، وَهمٌ، وحُلمُ كَرًى. والوُجود الواجبُ إنَّما هو لِذات لله، وما عَداهُ هباءٌ مَنثورٌ. ونِسبَةُ الوُجود للمَخلوقين مَجازٌ وتقريبٌ، لاَ حَقيقةَ لَه.

67- وَشُهُودُنَا شُهُودُكَ،

حقيقة الشُّهودِ هي إبْصارُ دلائلِ قُدْرَةِ الله مُتَجَلِّيَّةً في كلِّ آنٍ ومَكانٍ، في كلّ مظهرٍ وزمانٍ. وعَلَى العارفين أن يُشاهِدوا – بِعيَنِ البَصيرَة- أنوارَ القُدرة الربَّانيَّة وآثارَ الحِكمَة الإلهيَّة في كلّ مظاهِر الوُجود، وإلاَّ فَهُمُ المَحجوبونَ عن الشهود، الغافلُونَ عَن المَولَى المَعبود.
وقَد نَسبَ الشيخ المدنيّ شهودَ العارفينَ إلى مَحضِ الفضل مِن اللهِ، مُذَكِّرًا أنَّه، جلّ وعلا، مُفيضُ الإدراكِ والتقريب، والمُتَفَضِّلُ بالرِّعايَة والتَّهذيب، فَهوَ الذي يُرِي العارفينَ آياتِ قُربِهِ، ويَكشفُ لَهم لطائفَ حُبِّهِ. وهو الذي يزيلُ عنهم الحِجابَ حتى تَتَبَدَّى لهم معالمُ الاقتراب، فالشيخُ هنا يَتَبَرَّأ من كلِّ حَولٍ له وَقُوَّة ويُرجعُ الشُّهودَ إلَى صاحبِ الفَضلِ والجودِ.

68- ونَحْمَدُ اللهَ حَمْدًا يَلِيقُ بِجَمَالِهِ،

مُنْتَهى هَذهِ الصَّلاةِ ومِسْكُ خِتامِها، تَوَجُّهُ الشَّاكِرين بصادقِ الحَمد والامْتِنان، إلى مُفيضِ الآلاءِ، الرَّحيم الرَّحمن. وَلِسانُ حال الشيخ المدنيّ ناطقٌ بِجَزيل الثَّناء، ثناءٍ يَليقُ بِعَظَمة العَطَاء ويَتَناسبُ مَع جزالة السَّخَاء. وبِما أنَّ نِعَمَ الله وَرَحماتِهِ لا تَتَنَاهَى، ولَيسَ لَها حَدٌّ فَيدْرَكُ أو يُضاهَى، تَضَرَّعَ النّاظمُ أن يَكونَ حَمْدُه لِلهِ مُناسِبًا لِمقادير الجَمال، مَع أنَّها لاَ توصفُ بِمَقال، ولائقًا بعظمة البَهاء، التي لا يُدْرِكها الإحصاء. فَهو حَمدٌ بلا بِدايَةٍ ولاَ نِهاية، يَكونُ بِمقْدار تَلَوُّنات الجَمال، وَعَدَّ مَظاهر النَّوال. حَمدٌ مُنْبَثِقٌ مِن ألْسِنَةِ العَجْز والتَّقصير، مُنْتَهاهُ التَّسليمُ للمَوْلَى القَدير. فأنَّى لِألْسِنَة البَشَر أنْ تُدركَ نَوالَ العَزيزِ المُقْتَدِر.

69- وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا يُنَاسِبُ إِنْعَامَهُ وَإِفْضَالَهُ،

مُتابَعةٌ للثَّناء الجَميل وللحَمْدِ الجَزيل لِمَا أوْلاَه الرَّبُّ الجَليل من النِّعَمِ والنَّوالِ، والعَطايا والإفْضَال. وعَلى رأسِ تلكَ المَواهِبِ العَزيزة مَعرفةُ الله تعالى، والتقرُّب إلَيْه، ومَحَبَّةُ نَبِيَّهِ، صَلَّى الله وسلم عليه، والتشرُّف بِخِدمِتِهِ والوقوف بينَ يَدَيْهِ.
فَلَمَّا أدركَ الشيخُ المدنيُّ أنَّ العبادَ عَن أدَاءِ واجِبِ الشُكر عَاجزونَ وعَن القِيام بالأمْر مُقَصِّرونَ، سَأَلَ مَولاهُ القَديرَ أن يَتَوَلَّى حَمْدَ ذاتِهِ بِذاتِهِ، بِما يُناسِبُ عَظَمَةَ رَحماتِهِ.
وعَجزُ العارفينَ عَن الشّْكرِ غَاية المُراعَاةِ لجلاِل الأمْرِ.

70- وَنُصَلِّي وَنُسَلِّمُ عَلَى الْخُلَفَاءِ فِي الشَّرِيعَةِ،

دُعاءٌ للهِ وَرَدَ بِصيغَة الإخْبارِ. مَضمونُهُ التَّرَحُّمُ على أرواحِ الذين استخلَفَهم الحقُّ تَعالى لِتَبْليغ رِسالاتِهِ، وَأدَاءِ آماناتِهِ، وهمْ عُمومُ الأنْبِياءِ والمُرسَلين والأوْلياءِ والصَّالحين. هَذا، والصَّلاةُ والسَّلام مِن الله رَحْمَةٌ وتَشريف لِخُلفَائِهِ في الأرض، الذينَ حافَظوا عَلَى العُهود، وَوَفَوْا بِالعُقود، نَصروا مناهجَ الحَقيقَة، وَشَيَّدوا صُروحَ الطَّريقَة. وَيَشمَلُ الدُّعاءُ أيضا ورثةَ النَّبِيء، عليه الصَّلاةُ والسَّلام، مِن العُلماء والأوْلياءِ الذين اتَّبَعوا سُنَّتَهُ واتَّبَعُوا طَريقَتَهُ.

71- وَالأَحْكَامِ الْمُطَهَّرَةِ الْمَنِيعَةِ،

حافظَ هؤلاءِ الخُلفاءُ على أحكام اللهِ المُنَزَّلَة – التي يَصفها الشيخ بالمُطَهَّرة أي: الرَّفيعة السامية، والمَنيعة أي: الحَصينَة، فَلا تَدخل فيها الأهواء والمُيول، ولا تَشوبُها النَّزَغاتُ والأباطيل. وهذه شهادةٌ بأنَّ التصوَّفَ المَدَنيَّ قائمٌ على رُكنٍ ركينٍ من تَعاليم الشريعة، وأصلٍ أصيلٍ من أحكامِها الرفيعة. فَلا يُعْبَدُ اللهُ إلاَّ بما شَرَعَهُ لِعبادِهِ، ولا يتقرّبُ إلَيهِ إلاَّ بما نَصَبَهُ من مَعالمَ لِأحْبابِهِ.

72- وَعَلَى جَمِيعِ الآلِ وَالأَصْحَابِ الأُولَىَ غَرَفُوا مِنْ بَحْرِ حَقَائِقِهِ الْواسِعَةِ الرَّفِيعَةِ،

بقية الدُّعاءِ والسؤال حَتَّى يَشملَ اللهُ بِرَحْمَتِهِ جميعَ الآل أي: أهْلِ النَّبي، صلَّى الله عليه وسلم، وعِتْرَتَهُ الطَّاهرة الزكيَّة، وكَذا أصحابَهُ الغُرَّ المَيامين، الذين اغْتَرفوا مِن عيونِ المَعرفَة الصافية، المتَفَجَّرةِ يَنابيعُها مِن قَلبِ رَسول اللهِ، صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم، في إشارَةٍ إلى ما أتى به من القرآن الحكيم، وما تَضَمَّنته سِيرتُه من الهَدي الكريمِ.

73- وَعَلَى جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ،

مُواصَلَة لِرَقيقِ الضَّرَاعَةِ والدُّعَاء أنْ تَنالَ رَحمَةُ الله جميعَ الرُّسلِ والأنْبِياء، وأنْ يَشمَلَهم بِمَواهِبِ الفَضْلِ والعَطَاء. ولِلأنْبياء والمُرْسَلينَ شَرَفُ الأمانَة عَلى وَحْيِ السَّماء: فَهُم الذينَ بَلَّغُوا مَضمونَ الأوامِرِ الربَّانيّة، وأوصلوها إلى الأمَم السابقة القَبْلِيَّة. وهُم الذينَ حَازوا شَرفَ التَّبشير بِمَقْدَمِ رَسول اللهِ، البَشيرِ النَّذير، عَليه الصَّلاةُ والسَّلام. ومَا مِنهم أحدٌ إلاَّ وَبَشَّرَ بِقُدومِهِ واسْتَمَدَّ مِن عُلومِهِ. وهمُ الذينَ نَالوا شَرَفَ الصَّلاةِ وراءهُ لَيلَةَ الإسْراء، ويَأتونَ يومَ القيامَةِ خَلفَهُ، يَقدُمُهُم منهُ اللِّوَاء.

74- وَعَلَى أَزْواجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ

ضَمَّ الناظمُ أزواجَ النَّبيء في هذا الدُّعاءِ لأنَّهُنَّ -رَضِيَ الله عَنهُنَّ- أمهاتُ المُؤمِنينَ وسَيِّداتُ العَالمينَ، اغترفنَ العلومَ في بَيتِ الكمالِ، ونِلنَ شرفَ الصُّحْبَةِ والخِدمَة في كَنَفِ الجمالِ. يكفيهنّ فَخرًا أنَّ اللهَ منَّ عليهنّ بأمومة المؤمنينَ إلى يوم الدين، في قولِهِ المُبين: “ وأزْواجُه أمَّهاتُكُم ” (الأحزاب: الآية 6).
ومِن حَقِّ الأبناء أن يَدعُوا بإخلاصٍ لأمَّهاتِهِم وأنْ يَترحّموا عليهنَّ، بِرًّا بِهنَّ، وتَعظيمًا لِزَوجِهِنَّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، واستجلابًا لِبَرَكَتِهِنَّ، وبَرَكَةِ مُشاهَدَتِهِنَّ لأنْوارِ الوَحيِ تَتَنَزّلُ من السَّماء، في بُيوتِهنَّ، مَعاقِلِ الحِكمَة والحَياءِ.

75- وَذُرِّيَاتِهِ

تَخْصيصٌ للعِتْرَةِ النَّبَويَّةِ الطَّاهِرَة بِخالِص التَّرَحُّمِ والدُّعاء. والذرّياتُ هُم أوْلادُهُ – عَلَيه الصَّلاة والسَّلام- وقُرَّةُ عُيونِهِ الشَّريفَة، وأزاهيرُ مُهجَتِهِ المُنيفَة (وهُمْ: أبُو القاسِم، – وبِهِ كُنِّيَ- وعَبدُ الله، وإبراهيم، وزَينَب، وأمُّ كُلثوم، ورُقَيَّة وفاطمة، رَضيَ الله عَنهم أجْمعينَ)، ثمَّ مَنِ انْحَدَرَ من تلكَ السلالة الطَّاهِرَة، ابْنَا فَاطمَةَ البَتُول، اللَّذَانِ كانَا رَيحانَتَيْ الرّسول، الحَسن والحُسين، مَن كَان بُكاؤهُما يُؤذِي سيدَ الثَّقَلَيْن.
والدُّعاء للذُرِّيَة قيامٌ بِواجب المَودَّة في القُرْبَى، وتَعظيمٌ لِما لَهم مِن بَهاء النِّسبَة ” قلْ لاَ أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجْرًا إلاَّ المَوَدَّةَ في القُربَى “.

76- وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ،

الأتْبَاعُ – جَمْعُ تَابِعٍ- هم الذينَ شَرَّفهم اللهُ بِنُورِ الاهْتِدَاء، وأكْرَمَهُم بِصِدْقِ الاقْتِداءِ. إلَى رَسول الله نِسبَتُهم ومُنْتَماهُم، وبِهَدْيِهِ عُروجُهم ومُرتَقاهُم، هم الذينَ اتَّبَعوا رِسالَتَهُ، وراعُوا طريقَتَهُ، قائمينَ بِأمْرِ اللهِ، غائبينَ عمَّا سِواه، هواهُم تَبَعٌ لمَا جاءَ به النبيءُ الإمام -عَلَيهِ الصَّلاة والسلام- وظاهِرُهُم مُطابقٌ لباهِرِ التعاليم، وخالِدِ الأحْكام. والاتِّبَاعُ عَمَلٌ بالجوارِح والقلوبِ، سرًّا وعَلانيَةً، وحَقيقتُه التقوى في الظواهر والغُيوبِ.
ومِنَ اللَّطائِف أنَّ هذا الدُّعاءَ يَشمَل كلَّ أتْبَاع الحضرة النبويّة إلَى يَوم الدِّين، فَيَدخلُ فيه كلُّ المُحبينَ عَلَى اختلافِ الأعْصار وتَنائِي الأقْطَار.

77- وَالْحَمْد لِلَّهِ رَبِّ العالمين.

خاتِمَةُ المِسْكِ لهذه الصَّلاةِ النَّفيسَة حَمدُ الله، الواحدِ الأحَد، والثناء على آلائه التي لا تُعَدُّ، فهو الذي مَنَّ عَلى الشيخ المدنيّ بِصياغَتِها والتمسكّ بأفانينها الزاهرة، ثمَّ الغَوص على صَدَفِ الصلاة والسلام الباهرة. وهي مِن أجَلِّ نِعَمِ الله تعالى على العارفينَ، لأنَّ الصَّلاةَ على الرسولِ، عَلَيهِ الصلاة والسَّلام، طَريقُ الوُصول، ومِفتاح القَبول، مَجلَبَةٌ لكلِّ الفضائل، ومَرقاةٌ نحو عليّ الشَّمَائِل.
وأبْرَعُ اختتامٍ هو حَمد الله الذي بحمده تَتِمُّ الصَّالحات، المُتَفَجِّرَة من عُيون الإيمانِ والإسْلام والإحْسان.

خاتمة:

شَجَرَة الأكوان شكرٌ لله عَلَى ما أولاهُ من النِّعَمِ، وآتَاه من الحِكَم.
وهي تَمجيدٌ لآلاءِ المعرفة الباهِرَة ونِعَمِ التوحيد الفاخِرَة.
وفيها ابتهالٌ صادقٌ وسؤالٌ شائقٌ أنْ يُشَرِّفَ اللهُ قَدْرَ حَبيبِهِ الأمين، ويَرفَعَ ذِكْرَهُ في العالَمين، ويَجزيهِ عن المؤمنين أحْسن الجَزاء، بِمَحْضِ الفَضلِ والسَّخَاء،
وتَخَلَّلها تَذكيرٌ بِكَرامَة المُصطفى، عليه الصلاة والسلام، عَلَى رَبِّه الذي مَنَّ عَلَيهِ بِنِعَمِهِ الجَزيلَة، ومَواهِبهِ الفَضيلة، وأعظَمِها لَيلَةُ الإسراء التي أفاضَ عَليهِ فيها من نِعَمِه التي لا تُحْصَى وآلاءه التي لا تُستَقصى.
وزانَها تَذكيرٌ بأنَّ وُجودَ الكونِ وهمٌ وخيالٌ، ومَا الوُجودُ الحَقٌ إلا لِله، الواحِدِ المُتَعال، الذي أمَرَنَا بالتقرُّبِ إلَيْهِ من بابِ الرّسول، أصْلِ شَجَرَةِ الأكْوان.

نَجم الدين بن المنور المدني، جوان -أكتوبر 2013.

المولد النبوي لابن عاشور

1- الحَمدُ للهِ الذي أطْلعَ للنَّاسِ في ظُلمَة الضَّلالَةِ بدرَ الهُدى، وبلَّ بِغَيْثِ الرَّشادِ...

مِن نَفحاتِ المَولِدِ النبويِّ

المَولد النبويُّ مُناسَبَةٌ مُحمديَّةٌ زاهرة، ويَومٌ من أيَّامِ الله الباهرة... تَحياهَا القلوبُ...

عَشْرَةُ دَواعٍ للاحتِفَال بِالـمَولِد النَّبَويِّ الشَّريف

الاحتِفَال بِالـمَولِد النَّبَويِّ الشَّريف في الاحتِفَال بِذِكْرى مَولِدِ الرَّسولِ الأعْظَمِ،...