تفسير سورة الفاتحة

بسم الله الرّحمان الرّحيم

المعرفة الواضحة في تفسير سورة الفاتحة للعالم العامل والصّوفي الكامل الشّيخ سيّدي محمّد المدني القصيبي المديوني
قدّس الله سرّه

بسم الله الرّحمان الرّحيم
صلواتك اللّهم وتسليماتك على سيّدنا محمّد كامل النّور.

الإهداء

إلى الرّوح النّبويّة الزّكيّة وإلى كافة المؤمنين بالذّكر الحكيم وبالسّبع المثاني

بسم الله الرّحمان الرّحيم

( الحمد لله )

1. يَقول الله تَعالى : ” الحمد لله ” أيْ إنَّ جميعَ المحامد القوليّة والفعليّة لله وَحدَه، أَو نَقول إنَّ الحمدَ الذي كنتَ أنتَ مظهرًا له يَجري على لسانك عليك قولاً أو فعلاً إنّما هو لِله، حَتّى إذا حَمَدتَ اللهَ وأثنيتَ عليه بما هو أهله أو صَرفت النّعمة فيمَا خُلقَتْ لِأَجْلِهِ فَإنّما ذَلكَ القَولُ أو الفِعلُ للهِ، لاَ لكَ.

2. فَفي الحقيقة ما حَمَدَهُ غيرُ ألوهِيّتِه لأَجْل التّوفية بحقّ حَمده، وإلاّ فالعَاجز الّذي نَعته العدم لا يمكنه أن يُوفي بحمد مَنْ له وَصفُ القِـدَم، فكلّ حَامدٍ لَيسَ لَه من الأمر شيءٌ، إنّمَا هو آلةُ الحَمدِ، حَرَّكتْه يَدُ الاقـتِدَار وأَنطقَـتْهُ عَوامل الفَاعِل المُختار :

بيتٌ سيدي عبد الكريم الجيلي رحمه الله مقتطفٌ من قصيدته العينية التي مَطْلَعها:
فـؤاد بـه شـمـس المحـبـة طـالـع * وليـس لنجـم العـزل فـيـه مـواقـع
تَـــــرَاني كَالآلَة وَهو مُحَرّكــــــي * أنا قَلَمٌ والاقـتـدَارُ أَصَابِـــــــــــــع

3. أَو تَقولُ كلُّ فعلٍ وإنْ دَقَّ مَعناه هو حمدٌ لِله، وقَولنا: “وإنْ دَقَّ مَعناه” أي وإن لم تَظهَرْ وتَتبيّن مَحمدتُه للعموم إلاّ بعد تَصفية السّريرة وتحديد عَيْن البَصيرة فتَشهد حينئذٍ مَصدرَ الأفعال ونِسبَتَها للكبير المُتَعَالي:
[[ أخذَ هذا البيت من نفس القصيدة العينية. ]] وكلُّ قَبيحٍ إنْ نَسبتَ لفعله *** أَتتكَ مَعاني الحُسن فِيه تَسَارَعُ

4. فيتّضح لك أنَّ كلَّ فعلٍ هو حمدٌ نَبَعَت مياهه من بحور الأسماء والصّفات، ويتبيّن لك أنّ مظاهر الأفعال مُلكَه، وأَفعالُها حَمده والكلّ راجع إليه لأنّه أمره وله الملك وله الحمد * ، هذا هو معنى قوله :”الحمد لله” وَهوَ حقيقةٌ محضَةٌ لاتَرضى أن يشاركَهَا أحدٌ في أدنى حركة أو سكون.

5. ولمّا كان قوله :” الحَمد لله ” جملةً مركّبةً من مُسند ومُسندٍ إلَيه [[ مصطلحان نحويان يعنيان هنا المبتدأ والخبر.]] وذَلكَ يقتضي مَن يُسند أي مَن يُسند الحَمدَ لِله ويَنسبه إليه، حَسبَ ما يشير إليه التّعبير ويدلّ عليه الفَرض والتّقدير، كَانت الحَمْدَلة مُشيرةً إشارة لطيفةً تدقّ عن العقول إلى وجود حَامد مُقرّ بالإنعام، مُعتَرفٍ لِله بالتّفضّل والإكرام حَتّى أدّاه ذلك إلى حَمده بصريح القول وفَصيح الكلام فكأنّه قال: الحمد لله المُنْعم على سَائر الأنام.

6. وَهَذَا هو الحمد في مقابلة النّعمة دنيويّةً أو أخرويّةً وذلك نتيجة الاجتناب والامتثال لأحكام المُتَفَضِّل بعَظِيم النَّوَال، ومِن هَذَا يُؤخَذ أليمُ العِقَاب في هاته الدّار أو في دَار المَآب لِمَنْ أَعرَضَ عَن الهُدَى واتّبع سبيلَ الغَيّ والرَّدَى و” إنَّمَا يَتَذَكّرُ أولُوا الألْبَابِ ” [[البقرة 284]].

7. وهذا هو مُجْمَلُ الشّريعة المُطَهَّرَة بقوله :” الحَمْدُ لله “، صَريحٌ في الحَقيقة مشير إلى الشّريعة، ومَا ذَلك إلاّ سرٌّ مكنونٌ، لاَ يَعلم تأويلَه إلاّ اللهُ والراسخونَ.

(ربّ العالمين )

8. وَقَوله تَعالَى: ” رَبِّ العَالَمِينَ ” أي مَالك العَالَمين، فَسبحانَ مَن بيده ملكوت كلّ شيء فلا تصرّفَ لَهم، إذِ المَمْلوكُ، لاَ تَصرُّفَ له لأنّه “وَمَا مَلَكَت يداه لسيّده ومَولاَهُ” فيصرّفهم كيف يشاء ثمّ يجازيهم كيف يشاء فلا مـعقّب لحكمه، “ فَيَغفر لمَنْ يَشَاء وَيُعذّب مَن يَشَاء واللهُ عَلَى كُلّ شَيءٍ قَدير [[ينظرُ لقوله تعالى: ”

يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ المائدة، 40]] ” ألا له الخلق والأمرُ وهو ربّ العالمين. 9. أَو تَقول هو مُرَبِّيهِم تربيةً تليق به، لاَ عَلَى حَسب ما يُفهَمُ في خَلقِهِ فَتكون عبارةً عن تَوليهم فيما أقامهم الحقّ فيه لإحاطة قيّوميته بكلّ شيءٍ، فَهو القائم على كلّ نفسٍ بمَا كَسَبَت أي في حال اكتسابها فهاته هي تربية الحق لخلقه أي فكلّ ميسّر فيما خلق لأجلِهِ، وعلى كلا

التأويلين فالأمر كلّه بيده وهو ربّ العالمين لا يسأل عن فعله. 10. وقوله :” ربّ العالمين ” أي جَميعُهُم وإنْ كَانَت الإحاطةُ بِعَدَدهم أبعدَ من أن تُدرَكَ مِن حيثُ أَنّهم مَظهَرٌ للعِلْم، وحَيثُمَا كَانَ العلم كانت المعلومات فَهُم كائنون بكَيْنُونَتِه وهو كائنٌ بِكَينُونَة الذّات، فَمَهْمَا كَانَ العَالمُ كَانَ العِلمُ لعدم مُفارَقَة الصِّفَة للموصوف، ومَهمَا كَان العلمُ كَانَ المَعلومُ، وهنا دَهِشَتِ العقول، وغابت النقول، وتَحيّرَت الألبابُ، لذلك قال عظيم الجناب : [[حديث : “اللهم زدني فيك تَحَيُّرًا” ذكره عبد الغني النابلسي في كتاب الوجود ص 198 نقلا عن ابن عربي وضعّفه علماء السنةّ وكأنّ بيت عمر بن الفارض في قصيدته زدني بفرط الحب فيكَ تحيّرًا وارحم حشًا بلظى هواكَ تسعّرا.]] اللّهم زدني فيك تَحيّرًا

11. وكيف لا والحَال أنَّ العرش مُسْتَوى الرّحمان، وذَلك جزئيّاته : “ لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ ومَا فِي الأَرْضِ ومَا بَيْنَهُمَا ومَا تَحتَ الثّرى [[طه، 6]] ” إذْ يَلزَم مِنَ الاستِوَاء على الكلّ الاستواء على جُزئِياته ويلزم من ظهور الاسم ظهور مسمّاه بدليل : “ فأينَمَا تولّوا فثمّ وجه الله [[البقرة 115]] وإنْ كانَت “العَالَمينَ” وَجهًا من وُجوهه تَجَلَّى فيه بتربيته، ووُجُوه التربية لا تُحصى لأنّهَا نِعمته : “ وإنْ تَعُدُّوا نِعمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا [[النّحل 18]] ” .

(الرّحمان الرّحيم)

12. لكنّها مَحصورة في رَحمَتِهِ المُتَجلّية عَلَى كلّ شيءٍ وشيءٍ، فَهي مُحيطَةٌ بِجَميع العالمين ولذلك قال تعالى: ” الرّحمانِ الرّحيمِ ” أيْ بِجَميع العَالَمين كيف لا ورحمتُه وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ فهي محيطة بكلّ كبير
وصغير وجليل وحقير.وَفيه ما لا يخفى من إحاطة الأسماء اللاّزمة لإحاطة المُسَمَّى والله بكلّ شيء مُحيطٌ.

13. واعلم أنَّ الرّحمانَ والرّحيمَ هما اسمان معناهما واحدٌ، ولذلك تَرَاهما مذكورين في صُحبةٍ واحدةٍ في الغالب لتأكيد الرّحمة وتطميع قُلوب الرّاغبين، وفيهما أقوالٌ غيرُ ذلكَ

14. نعم إنّ الرّحمان يختصّ به سَماء التّنزيه والرّحيم يتناول التّشبيه فيقال للعبد رحيمٌ ولا يقال لَه رحمانٌ، فالرّحيم مَعناه أرقّ لسريانه في مظاهر الوجود أو نقول لتجلّيه في مَرَائي الشهود، لذلك قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : “هُمَا اسمان رقيقان أحدهما أرقُّ مِنَ الآخَر” [[انظر مثلا تفسير البَغَوي، ص. 1. ]].

15. واعلم أنَّ اللهَ صرَّحَ بالرّحمة تطمينًا لقلوب عباده وتسكينًا لضمائرهم وَتبشيرًا لهم بِعَظيم لُطفِهِ وَحَنَانِه. ومِن رأفته بعبيده أنْ طوَى ذكرَ مقابل الرّحمة من الأسماء كالمُنتَقم وشديد العقاب والقَهَّار. فالرّحمة صريحة ومنها يؤخذ مقابلهَا والكلُّ مِن أَسمائه أو نقول من صِفَاتِه وظهور تجلّياته.

16. وقد صرّح بالكلّ في بعض آياته : “ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنّي أَنَا الغَفورُ الرّحيمُ وأنَّ عَذَابي هو العذابُ الأليمُ [[الحجر 49 و50]] ” ولمّا قدّمَ الرّحمةَ في اسمَيْنِ عَظِيمَيْن – آخرُهُمَا تأكيدٌ لأَولهمَا ومُقتضى ذلك استغراقُ العَبيد فيها، ولربّما أدّاهم ذلك إلى الغَفلة عن مقابلها فيتساهلون في تَركِ مَا أمِرُوا بِه – استدرَكَ عليهم ذلك بقوله:

( مالك يوم الدّين )

17. ” مَالِكِ يَومِ الدّين ” تَنبيهًا لهم وإيقاظًا لِهِمَمِهم لِيَتَيَقَّنُوا أنّهم مأمورون فَيَمتثلون، وفي يَومِ الدّين يُحَاسَبونَ فَيُجَازَون ” فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدخِلَ الجَنَّة َفَقَدْ فَازَ [[آل عمران 185]] ” ، فَيُجَازِي الملكُ الأعظمُ كلاًّ بما قدّمت يداه فيقول لمن كانوا بِأَمْرِه يَفعَلُونَ” ادْخُلوا الجَنَّةَ بمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [[النّحل 32]] ” وَلِمَن كانوا بطاعته مُتهاونينَ “ ادخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخلين [[ التّحريم10 ]] “. وَهَذَا المَعنَى مُنَاسِب لقراءة مَلِكِ بكَسر اللاّم مِن المُلْك بضمّ الميم فإنّه المَلِكُ الحَاكم العَدل، قَولُه الفصل ومَا هو بالهزل.

18. وأمّا قراءة مَالِك بِإثبات الألف بَعد الميم مِن المَلِك بكسر اللاّم فالمعنى حينئذ أنّه مَالِك لِيَوم الدّين وأَهله إذ لا معنى لمَلِك اليوم إلاّ مُلْك أهله أي مَن كَانَ فيه، فَهو مجازٌ مُرْسَلٌ من إطلاق الضرب وإرادة المَضروب. ومَالك يَوم الدّين أقوى في الاستيلاء من مِلكه (بكسر اللاّم) لأنّه لَيسَ كلّ مَلِكٍ مَالكًا وإن كان معناهما بالنّسبة لله تعالى واحدًا لأنّه ملك حاكمٌ مَالك لا مَلَك حاكمٌ فقط.

19. هَذَا وَمُلكه لأهل يوم الدّين هو تصريفهم كَمَا يَشَاءُ: “ هَذَا يَوْمٌ لاَ يَنطقونَ ولاَ يُؤذَن لَهُم فَيَعتَذِرونَ [[المرسلات، 35 و36]] ” لذلك نَرى العبيد تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون لأنّه لا تــــــملك نفس لنفس شيئًا أي ولو لِنفسها والأمرُ يومئذٍ لله فيحاسبهم كما يريد ثمّ يقول : “قبضة للجنّة ولا أبالي وقبضة للنّار ولا أبالي [[في حديث الحَكَم بن سفيان، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : «إن الله قبض قبضة فقال: إلى الجنة برحمتي، وقبض قبضة فقال: إلى النار ولا أبالي».]] ” فتلك دار النّعيم من مظاهر اسمه المنعم وهذه دار الجحيم مِن مَظَاهر اسمه المنتقم ، فَتَحصل من هذا كلّه أنّه مَالك الدّار الأولى لقوله: “ ربّ العالمين ” ومالك الدّار الآخرة لقوله: “ملك يوم الدّين” “فَلِلّه الآخِرَةُ والأُولَى ” [[النّجم، 25.]] .

20. ولمّا أنْ أقرَّ واعترف العَبيد له بالحمد وأنّه المنفرد بربوبيّة العالمين وبأنّه ملك يوم الدّين لزمهم القيام بواجب ما يقتضيه اعترافهم من القيام بعبادته ومنحتم طاعته لذلك توجّهوا إليه بالجواب، وشافهوه بالخطاب فقالوا : ” إيَّاكَ نَعبدُ ” أَي قيامًا بواجب ربوبيّتك وشكرًا لرحمتك وعظيم منّتك فإنّا نَعبدك لا نعبدُ غَيرَكَ أيْ نَحصرُ عبَادَتَنا فيك حتّى تكون عبادتنا وعبوديّتنا مقصورةً عليك فإنّك المعبود وغيرك المفقود.

21. هَذَا وقد سأل بعض العُلمَاء أُستَاذَنَا الأعظمَ وعمدتَنَا الأفخمَ غوثَ الزّمان سيّدَنَا ومولانا أحمد العلاوي المستغانمي [[شيخ المؤلف، التقى به سنة 1909 في تونس العاصمة، أخذ عليه الطريق وصاحبه إلى مستغانم حتى سنة 1911. للشيخ العلاوي تفسير للقرآن غير كاملٍ عنوانه البحر المسجور وتوفي سنة 1934.]] رضي الله عنه وأرضاه قَائلاً: “التعبير بالنّون ربّما ينافي الخشوع مَعَ أنّ المَقَامَ يقتضي التذلّل، فقال الشّيخ : “إنَّ التّعبيرَ بالنّون هو المفيد للخضوع والتّذلّل لاقتضائه اعتراف الجَميع بالعبادة إليه، وَخُضوع الكلّ لَدَيْه بخلاف لو قال أَعبد، ثمّ إنّ التّعبير بنون الجَمع يقتضي حكمًا زائدًا وهو أفضليّة الاجتماع في العبادة على الانفراد”.

(إيّاك نَعبد)

22. ثمَّ اعلَمْ أنَّ العَامَّةَ [[تَشِيعُ عندَ الصُّوفيّة عباراتُ: “العامة، الخاصّة وخَاصَّة الخاصّة”. ولا يُقصد بها أيُّ ميزٍ اجتماعيّ أو اقتصاديّ، وإنّما هي مراتبُ للإيمان ودرجاتٌ للفَهْم يتصوّرها الصوفية لِيُجْرُوا عليها تَدَرُّج المقامات وترقّيها. ]] يقولون: ” إيّاكَ نَعْبُدُ ” أيْ لا نَعبد غيرَكَ مِن سائر الأصنام وذلك هو إخلاصهم الّذي يقتضيهِ المَقام، والخاصّة يقولون: ” إيّاكَ نَعْبُدُ ” أي لأنّكَ أهلٌ للعِبادَة لِذَاتكَ لا خوفًا من الانتقَام، ولا طمعًا في الإنعَام، وهذا هو إخلاصهم المأمورون به في الكتاب المستبين بقوله : ” وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدوا اللهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدّينَ ” [[البيّنة، 5.]] .

23. لذلك قال قَائِلُهُمْ :
جُلّهُم يَعبُدونَ مِن خَوفِ نَـــــارٍ * وَيَرَونَ النَّجَاةَ حَــظّا جـَـــــــزيلاً
أَو بِأنْ يَسْكُنوا الجِنَانَ فيُضْحوا * فِـــي رياضٍ وَيَشْرَبُوا السَّلسَبيلاَ
لَيسَ لِي فِي الجِنَان والنَّار رَأيٌ * أنَــا لاَ أبتَــــغِـي بِربّــي بَديـــــلاً [[تنسبُ هذه الأبياتُ لأحد جُلاّس ذي النون المصريّ. وقد أنشدها

إمّا مُتَمَثِّلاً أو مُبْتكرًا في مَجْلِسه. انظر، فيض القدير، شرح الجامع الصغير، لعبد الرؤوف المناوي، ج. 5، ص. 68.]] 24. أمّا خَاصَّةُ الخاصّة فإنّهم يَتَبَرّؤون مِن عِبَادَتهم إنْ لَم نَقل مِن وُجُودهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله : ” ولاَ يشرِكْ بِعبَادَةِ رَبِّهِ أحَدًا [[الكهف 110]] ” أي حتّى نفسه فَلاَ يَرَى لِنَفسه عبادةً، إنّما سِرّ الله يَعبده في أيّ نوع من أنواع العبادة كانت مُعاملةً مع العباد أو مع المَعبود والأخيرة اعتقاديّة أو عَمليّة، والأخيرة بَدَنيّة أو مَالِيّة أو مُتَرَكِّبَة منهما، وتلك هي الشّريعة المُطَهَّرة، والإخلاص رُوح جميع أعمالها، والإخلاص هو سِرّ الحقيقة، فَنِسبة الحقيقة للشّريعة نِسبَة الرّوح للجسد، وَنِسبَة الشّريعة للحقيقة نِسبة اللّبَنِ للزَّبَدِ.

(وإيّاك نستعين )

25. وإلى ذلك يُشِيرُ قولُه: ” وَإيّاكَ نَسْتَعِينُ ” فكأنّه قال : نَستعين بكَ، لاَ بِغَيْرِكَ في عبادتنا المذكورة لأنّها أقرب مذكور تتعلّق به الاستعانة، وفي سائر الحركات والسّكنات والإرادات واللّحظات فأنت في جميع ذلك القويُّ المُعِينُ.

26. ثمّ أقول إيّاكَ أن تَفهم الاستعانة المألوفة بين المخلوقين، فَتَبَارَكَ عن ذلك ربّ العالمين، وإلاّ أشركتَ وكنت مِنَ الظّالمين، إنّما هي استعانة تنزّهه عن الشّركاء في جميع الأفعال وتحقّق له الانفرادَ في عَالَمَيْ الوجود والمثال، فهذه هي الاستعانة اللائقة بكمال ذاته.

27. فَتقول حينئذ : إنّه المنفرد بكلّ فِعْلٍ، أمّا الأكوان فهي مظاهر تستّرت أفعاله بها، ومن ذلك قوله تعالى : ” قَاتِلُوهُم يُعَذِّبهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُم [[التّوبة، 14 ]] ” وقوله : ” ومَا رَمَيتَ إذ رميت ولكنَّ اللهَ رَمَى [[الأنفال، 17 ]] ” وإن كان الحقّ غنيّا عن الآلة لكن اقتضت حكمته الباهرة تستّر أفعاله ليتحقّق فيها باسمه الباطن.

28. وَهَذا هو المُصطَلَح عليه عند القوم رضي الله عنهم بالفناء في الأفعال [[أنظر منهل التوحيد للمؤلف، ص. 16 وانظر تعريف الطوسي ” الفناء هو فناء رؤيا العبد في أفعاله لأفعاله بقيام الله له في ذلك ” اللمع ص417.]] فيقولون لا فاعلَ إلاَّ اللهُ وإليه يشير قوله صلّى الله عليه وسلّم : “لاحَولَ ولا قوّةَ إلاّ باللهِ [[عَن حَازم بن حرملة الأسلمي رضي الله عنه قال: مررت بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا حازم! أكْثر منْ قول : لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنّها من كنوز الجنّة . رواه ابن ماجة بسندٍ صحيح ]] ” أي لا تحوّل عن المعصية أو تقول عن كلّ شيء ولا قوّة على الطّاعة أو تقول على كلّ شيء إلاّ بالله لأنّه الواحد في فعله لا شريك له، والفناء في الأفعال مقام الخاصّة من أهل الله، أمّا خاصّة الخاصّة فلا يرضون إلاّ بذات المحبوب .

فُقُل: لَيسَ لَي فِي غَير ذَاتكَ مَطْلَبٌ * فلا صورةَ تُجْلَى ولاَ طُرفَةَ تُجْنَى [[من أبيات تنسب إلى أبي الحسن التستري: فلا تلتفت فى السير غيراً وكل ما *** سوى الله غير فاتخذ ذكره حصناً
وكل مقام لا تقــم فيـه إنـــــــــــــــــه * حجاب فجد السير واستنجد العونا
ومهما ترى كل المراتب تجتـلـــــى * عليـك فحل عنها فعن مثلها حلنــا
وقل ليس لى فى غير ذاتك مطلب * فلا صورة تجلى ولا طرفة تجنـــــى ]]

(اهدنا الصّراط المستقيم)

29. فَمَقامهم هو الفناء في الذّات، فَيَقولون لاَ موجودَ إلاّ اللهُ، وهو المَطلوبُ بقوله : ” اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقيمَ ” لأنَّه بَعدَ الإقرار بالعبوديّة ومَا عَلَيهَا مِنَ النِّعَمِ وأَدَاءِ واجبِ حَمدها وشُكْرهَا والإقرار بالرّبوبية لِجَمِيع العَالَم والأمَمِ والقيام بعبَادَتِها وتَقديرهَا حقَّ قَدْرهَا، وبَعدَ الاعتراف بالوحدانية في جميع الأفعال ممّا جَرى به القلمُ والاستعانةُ به لانفراد الألوهيّة بجميع أمرهَا، طلبَ الهدايةَ إلى الصّراط المُستَقيم الّذي لا عَوَجَ فيه لأنَّهٌ منزّهٌ عَن كلّ إخلالٍ، مُتَّصِفٍ بكلّ كمالٍ، صراطِ العَزيزِ الحَميدِ، الذي له مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ.

30. والهِدَايَةُ إلى صِراطِ الله هي الوصولُ إلَيه والفَنَاءُ فيه والغَيبَةُ في ذاته حتَّى يَبقَى لِله وفِي الله وبالله، لا اسمٌ ولا رَسمٌ ولا صورةٌ ولا خيالٌ ولا شكلٌ ولا مِثَالٌ إنمَّا الكلُّ مُنْطَوٍ و مُتَلاشٍ في ذات الكبير المُتَعَال، فَكُل شيءٍ هَالك إلاَّ وَجهُه أي في الماضي والحال والاستقبال لوحدانيـة الـذات واستوائها في جميع المراتب والجهَات فكما أَنَّها في العلويات مَوجُودة في السّفليات ” وَهُوَ الذي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وفِي الأَرض إلَهٌ [[الزُّخْرف، 84. ]] ” ، ” وَلِله المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله [[البقرة، 115. ]] ”
.

[[تمَّ تسطير هذه الجمل كما وردت مسطّرةَ في مخطوط المؤلف.]]

31. فَلاَ مَكانَ لغيره ولا زمانَ لِسِواهُ لأنَّهما من الأشياء التي تَقتضي الذاتُ مَحْوَهَا، فَوحدانيّةُ الذّات تَقْتَضِي مَحْوَ الغير مِن لَوحة الوجود، وَانتفائِهِ مِنْ مَظْهَر الشُّهُودِ، فلاَ رسومٌ ولا حُدودٌ، إنّمَا الكلُّ مَعدومٌ ومَفقودٌ.

32. فَمَا ثَــــــــــمَّ إلا اللهُ، مَا ثَمَّ كائنٌ * وَكُــــتلُّ خَيالٍ في الحقيقة زَائِل
حَقِّقِ الأمــــــــــرَ فَمَا تَلقَى ثَمَّ صــــــــورةً * ألا كلُّ شـيءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطلٌ [[تضمين لعجز بيت لبيد بن ربيعة: ألا كُلُّ شيءٍ ما خَلا اللّهُ باطِلُ *** وكلُّ نعيمٍ لا مَحالة َ زائِل، الديوان، ص. 84. ]]
جَدِّدِ السّيـــرَ وَيَمّمْ حضرةَ القدس الذي * ظَـاهرٌ وباطـــــــــنٌ آخــــرُ و أوَّلُ
ذلكَ صـــــــراطُ الله، صراطٌ مستقيـــــــم * لَيسَ فيه غَيره، لَيسَ فيه شَاغِل. [[ لم نتوصّل إلى نِسْبَة هذه الأبيات]]

33. هَذَا هو الصراط المستقيم الذي مَا زال يَطْلُبُ الهدايَةَ إليه خاصَّةُ الخَاصَّة مِن الأمَّة المحمدية بِطَريق الوِرَاثَة النّبوية، وَقَد طلبَهُ قبلَهُمُ الأنْبِياءُ عَلَيْهم الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، ومِن ذَلك قولُ مُوسى: ” رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إليكَ ” [[الأعراف، 143. ]] .

(صِرَاطَ الذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ)

34. والحَقُّ تَعالى أنزل كلاًّ مَنْزلَتَه وأعطى كلاًّ مَسألَتَه وألزَمَ كلاًّ مَرتَبَتَه والجَميع قد أنعم الله عليهم ولذلك أبْدَلَ [[جعل الجملة في محلِّ بَدَل، الوظيفة النحوية المعروفة. ]] منهُ قَولَه: ” صِرَاطَ الذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ ” أي مِنَ النّبيّين
وخاصّة الخاصّة من الورثة المحمّديين، فَقَد اشتركَ الكلُّ في الوصول إلى المَقصود، والتَّمَتُّع بِالشّهُود، لذلك قال صلّى الله عليه وسَلّمَ :”[vert]عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأنْبِيَاء بَني إسرائيل[/vert] [[قال السيوطي في الدُّرَر: “لا أصلَ له”، وقاله أيضًا ابن حَجَر والدميري والزركشي. وسئل الحافظ العراقي عما اشتهر على الألسنة من حديث “علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل” فقال: لا أصل له ولا إسناد بهذا اللفظ ويُغني عنه :”العلماء وَرَثَةُ الأنبياء” وهو حديث صحيح.]] ” وقَد انفردَ الأنبياء بمقام الإنباء والتّشريع، فَياله من مقام رفيع

35. أمّا النِّعمَة العُظْمَى التي تَجَلَّى الله بهَا لِسَيِّد الأنبياء صلّى الله عليه وسَلَّمَ حتّى رآه بالأفق الأعلى، فَهي أجلّ مِنْ أَنْ يُدركَهَا غيره من الأنبياء، لذلكَ قَال لموسى:" لَنْ تَرَانِي " أي لمّا قال له:" أَرِنِي أَنظُرْ إلَيكَ [[الأعراف، 143.]] ". لكنَّهُ أَمَره بالنّظر إلى الجَبَل لأنّه اللائق بمقامه عليه السلام.

36. أمَّا الوَرَثَة المحمّديون فقد تكلّم كلٌّ عَلَى حَسَب مَا وَرِثَ من مُوَرِّثِهِ و"[vert]العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ[/vert] [[من حديث طويلٍ أخرجه أبو داود في سننه (3/317رقم3641) ، والترمذي في سننه (5/48رقم2682)]] " أي عَالِمُ كلِّ زَمَانٍ وَارثٌ لذلكَ النّبي.

37. فالعُلمَاء الآن قد وَرثُوا المقامَ المُحَمَّديَّ القائلَ فيه صلّى الله عليه وسلّم:”[vert]رأيت ربّي بِعَيْنِي وبِقَلْبِي[/vert] ” لذلك تَراهُم صرّحوا في شطحاتهم بما لا تَسَعُه العقول فأنكره عليهم من لاَ ذوقَ لَه مِمَّنْ كَان مُتَجمّدًا على النّقول، دَأْبُه شَنشَنَةُ القول.

38. ولَهُم في ذلك أسوةٌ حَسَنَةٌ به صلّى الله عليه و سلّم لَما أَخْبَرَ بمَا تَرَقَّى لَه في ليلة الإسراء من رؤية الحقّ تعالى “بالأُفق الأعلى ثمّ “رَآهُ نزلَةً أخرى عند سدرَةِ المُنْتَهَى [[تضمين للآيات 13 و14 من سورة النجم. ]] ” فاستبعَدَ ذلك منه أهلُ الجُحُود، وأقرَّ به مَن كُسِيَ نورَ الوُجود فرأَى أنَّ الكلّ معدومٌ ومَفقودٌ. إنّمَا هي مَظاهر وتعيُّنَات، يَتَحَقَّقُ فيها معنَى اسمه الظّاهر ولا ظاهرَ سواه، لأنَّ ظهورَ الغَير يَـقتضي حصرَ الوجود الأصليِّ، وإذَا حُصرَ كَانَ مَقهورًا وكَيفَ ” وَهُوَ القَاهِرُ فَوقَ عِبَادِه [[جزء من الآية 18 أو 61 من سورة الأنعام. ]] “.

39. وإيّاك أنْ تَفهَمَهَا فَوقيّةَ مَكَانٍ، إنَّمَا هيَ فَوقيَّةُ مَكَانَةٍ تَقتضي اضمحلالَ مَنْ تَجَلَّى عليه القهرُ كَيْ يَتَمَحَّضَ لِله الخلقُ والأمرُ، وما جَادلَ به أهل الشّرك لا يَثني عَزيمَتِه صَلَّى الله عليه وسلّم أوعَزيمةَ وَرَثَتِهِ لأنّهُ ” مَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ البَلاَغُ [[جزء من الآية 99 من سورة المائدة. ]] ” إمّا وُجوبًا فِيمَا تَسعه الأفهامُ، وتتعلّق به الأحكام، أو شُكْرًا لله فيمَا حَصَلَ مِن عَلِيِّ الدَّرَجَاتِ وَرَفيع المَقَام.

40. وإنْ كَانَ الإفصاحُ عَمَّا يُكْشَفُ للخَوَاصّ مِنَ المُقَرَّبينَ لا يمكنُ، لِعَدَم تَوفية العبارة حقَّ المَقَام فهي أضيق من أن تَسَعَ مَعنًى قديمًا و أمرًا عظيمًا. لذلكَ قال أستاذنا [[المقصود به الشيخ أحمد العلاوي.]]:”كلّمَا أرَادَ عارفٌ الإيضاحَ الكُـلِّيَ لمعــــاني الصِّفَاتِ وَوَحْدَة الذّات، بَرَزَت عِبارته على خِلاَفِ مُرَادِه، قَريبَةً من التّشبيه والمَقصودُ منهَا غَايةُ التّنزيهِ، وإنْ كانَ كلٌّ من التنزيه والتشبيه مظهرًا للوحدانيّة فالظّاهر للتّشبيه والباطن للتّنزيهِ، ” وأينما تولّوا فَثَمَّ وجْهُ الله ” [[جزء من الآية 115 من سورة البقرة. ]] فالكلُّ في الحقيقة تنزيهٌ لأنّه صراطٌ مستقيمٌ، لا عِوَجَ فيه.

41. هذا، والسَّائرُ إلَى هَذَا الصّراط قد تَمْنَعُه قواطعُ فَيرجع بعد الشّروع ويُسْلَبُ بَعدَ العَطَاءِ، ويُحْجَبُ بَعدَ كَشف الغطاء، نَعوذ بالله تعالَى،” فَلاَ يَأْمَنْ مَكرَ اللهِ إلاَّ القَومُ الخَاسِرُونَ [[الأعراف، 99.]] ” , فهذا مغضوبٌ عليه والعِيَاذُ بالله.

42. وقَد يَظلّ السّائر عن الطّريق المُوصّل إلى هذا الصراط حتّى يظنَّ أنّه ربّما يصل إليه من طريق العبادة وكَثرَةِ الأعمال الصّالحة، نَعَم إنَّ ذلكَ طَريقٌ إلَى الجنّة، ” إنَّ الّذين آمنوا وَعَملُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفِرْدَوسِ نُزُلاً [[الكهف، 107. ]] ” ، فَقَد تأخذه طريقُ الجَنَّة فَيَضلُّ عَن الطّريق المُوصِلَة إلى الصِّرَاط المُستقيم لذلك قال:”غَيرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِم ولاَ الضَّالينَ”.

(غَيرِ المَغْضُوب عَلَيْهم ولاَ الضَّالِّينَ)

43. أي غَيرِ الصِّراط الّذي يَأْخُذه مَن غَضِبتَ عَلَيْهم، فَإنّهُمْ يَرجِعُونَ من حيثُ لا يَشْعُرُونَ، وغَيرِ الصّراط الّذي يَأخذُهُ الضالُّ لأنَّ هذا غايَةُ مَا يَصلُ إلَيْهِ هو التَمَتُّعُ بالنّعيم والحُورِ والقُصُور، وأيْن مَن كَانت هِمّتُهُ الحُورُ والقُصورُ وَمَن كانت هِمَّتُه رَفع السّتور ودَوامُ الحُضُور، لذلكَ طَلبَ الهدايةَ إلى هذا الصّراط المُستَقِيم.

44. ثُمَّ شَدَّدَ في الاحتراز عَن غَيْره بِقولِه: ” غَيرِ المَغْضُوبِ عَلَيهِمْ ولاَ الضَّالِينَ ” لأنَّ المَسلكَ رقيقٌ وقَواطعه كثيرةٌ، ولا يُخَلِّصُ مِن مَهَالِكِه ومَوانِعه إلاّ الإقتداءُ بِمَن سَلَكَه وهو المُرشِدُ مِنَ الوَرَثَةِ المُحَمَّديّينَ مِمَّنْ أَنْعَمَ الله عليهم من الأولياء المقرّبين وإلَى ذلك يُشيرُ قَولُه:” صِرَاطِ الّذينَ أَنعَمْتَ عَلَيهِم ” فإنّه لا بدّ من الرّفيق قبل الطّريق.

45. وَقَد سئل شيخُنَا [[المَقصود به الشيخ أحمد العلاوي.]] ، رَضِي الله عنه، عن دَليل الاقْتِدَاء بالشّيخ المُرَبّي فقال: قولُه تَعالى:” واتَّبِعْ سَبيلَ مَنْ أَنَابَ إَلَيَّ ” [[لقمان، 15. ]] ، وَقولُه: ” وابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسيلَةَ ” [[المائدة، 35. ]] .

46. هذا وللمفسّرين أقوالٌ في معنى قوله:” غَير المَغضُوب عَلَيهم ولاَ الضَّالين ” ومَا ذَكرناه هو ما نَاسَبَ المَقَامَ ودلّ عليه سياقُ الكَلاَم.

47. فإنَّ آخرَ الفاتِحَة كلِّه في العلم اللّدنّيِّ المُسمّى بالتصوّف في اصطلاح القوم ويسمّى بالإحسان في لسان العموم وهو الرّكن الثّالث مِن أَركان الدّين وبه الختامُ، وقَبله ركنَا الإيمان والإسلام.

48. فَدَخَل الأوَّلُ تَحتَ أوّلِ الفَاتحَة فإنّ الحمدلة دالّة على التّوحيد وذَلكَ هو الإيمان بالله وبمَا أنْزَله على رسله وهو المُسَمَّى في الاصطلاح بعلم الكلام وهو أساسٌ تَنبَنِي عليه سائر العلوم والأحكام. وَيَدخل الرّكن الثّاني تحت قوله:” إياكَ نَعبدُ ” أي نُطيعُكَ بجميع جَوارحنَا وذلكَ هو الإسلامُ.

49. فَقد حوت الفاتحة بهذا الاعتبار جميعَ الديانة الإسلامية لأنَّ مجموعَ الدّين هو الأركانُ الثَّلاَثَةُ [[إشارة الى حديث جبريل عليه السلام. ]] .

50. نَعم، قَد وَرَدَ أنّ كلَّ ما في القرآن فَهو في الفاتحة، ووردَ أيضا: “كلُّ ما في الفاتحة فهو في البسملة وكلُّ ما في البسملة فهو في نقطة الباء ” لأنّها تشير إلى الوَحدة المطلقة.

51. وقد ألَّفَ أستاذنا رَضيَ الله عنه رسالةً في النّقطة سمّاها “الأنموذج الفَريدُ الموصّل لعين التّوحيد” ، صغيرة الحجم كبيرة العلم، دقيقة الفهم ليس لها في المؤلّفات مثيلٌ، كشف فيها الغطاء ووضّح السّبيل، خَتَمَها بقوله: “وهنا وقفَ القلمُ ورَجَعَ المراد لنفسهِ قَائلاً:” أمْ يَقُولونَ افتَرَاهُ قل فأتوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ” [[يونس، 38.]] .

52. فارضَ اللّهمَّ عنه، وقَوِّ مَدَدنا منهُ، بحُرمَة سيّد الأولين والآخرين، صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ، وعَلَى آله وأَصحَابِهِ أَجمعين واهدنا إلى الصّراط المستقيم، وَآتنا من لدنَّكَ أجرًا عظيمًا، وَثَبّتنا في مَا أَقمتنا وألْهِمْنَا لمَا أَمَرتَنَا، وَلاَ تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسينا أو أخطأنا، إذ ليس لَنَا إلاّ مَا عَلّمْتَنَا وأنت العليم الحكيم ولَم نكتب من التّأويل إلاّ ما آتيْتَنَا وأنت الغَفُورُ الرّحيم.
وكان الفَراغُ منه في يوم الجمعة من جمادى الأولى 1339 هجري المُوافِقِ لسنة 1921 ميلادي.

شَرْح حَديث حَنظلَة: ساعَةٌ وساعَة

كتاب اللحظة المرسلة على حَديث حَنْظَلَة تأليف الشيخ سيِّدي محمد المَدَنيّ، رضي الله عنه 1- الحَمد...

الرّوضة الجامعة في تفسير سورة الواقعة

بسم الله الرحمان الرحيم الرَّوضَةُ الجَامعَة في تفسير سُورة الوَاقعَة كانَ الشيخُ سيدي محمد...

رسالة النّـور

بسم الله الرّحمان الرّحيم أَسَّسَ الشيخُ سيدي محمد المدني، رَحمهُ الله، التصوَّفَ على فَهمٍ دقيقٍ...