
القسم الأول
بســـم الله الرحمـــــان الرحيــــــم
نَبتَدِئُ – عَلَى بَركة الله وعَونِه- نشرَ كتابٍ فَريد مِن كُتُب سَيدي مُحمَّد المدني، قدّس الله سِرَّه، وَعُنوانُه: مَنْهَلُ التَّوحيد. وَهو شَرحٌ لَطيفٌ عَلَى أرجوزته في علم الكلام يَعرضُ فيها قَواعدَ العَقَائدِ الأشعريَّة وَمَا يَجب عَلَى الفَقير اعتقادُه. وسينشر هذا الكتاب محققا في شكل حلَقَاتٍ راجين من الله أن يَنفَعَ بِه أفئدةً مشتاقةً إلَى الورود على مَنْهَلِ التَّوحيد، آمين
بســـم الله الرحمـــــان الرحيــــــم
وَالصَّلاة والسلام على سيدنا وَمَولانا مُحمّد وَعَلى آله وأصحابه ذوي القلب السليم والفهم الـمُستَقيم.
وَبَعدَ حَمدِ الله اللائق بكماله، الـمُنَاسِب لجماله وَجَلاله، يَقول كَاتبه: هذَا شرح لطيفٌ جَعلتُه على أرجوزتِي الـمُسَمَّاة (كفاية المريد) طلبه منا بعض الإخوان، الذين حَمَلَهم حسنُ الظنِّ بنَا وَصَفاء الـجَنَان، وَقد سَمَّيته “مَنهل التوحيد على كفاية المريد” مستمدًّا من الله الإعانة على الإتمام، فَإنَّه الممد لجميع الأنام، الـمُتَفَضِّل بِجَميل البدء وَحُسن الـخِتَام، رَاجِيًا مِمَّن قَرَأَه أنْ يَنظر بعين الرضا والابتسام، لاَ بعين الانتقاد والانتقام، وَالعذر مقبول عند الكرام.
قَال الناظم أسكنه الله دار السلام:
يَقُولُ عَبْدُهُ الـمَدَانِي الـمُرتَجِي *** غُفرَانَ مَا قَدْ ذَلَّهُ مِنْ عِوَجِ
أما الناظم فهو العبد الضعيف المحتقر محمد بن خليفة [id=”1″] ابن الحاج عمر القصيبي المديوني من العمالة التونسية الـمُلَقَّب بالـمَدَانِي، العلاوي طريقةً. ومَعنَى البيت أنَّ الناظمَ يرجو من الله تعالى لحسن ظنّه فيه لقوله:”أَنَا عندَ ظنِّ عَبدي بِي”، أنْ يغفرَ له ويتجاوزَ عمَّا صدرَ عنه منه من المخالفات وَعَظيم الزلاَّت حتَّى اكتسبَ بذلكَ ذِلَّةً بينَ يَدَيْ العَليم الحكيم، حَيث اعوَّجَ عن الصراط المستقيم. حَمله على الدعاء تضرُّعُهُ وَاضطرَارُه إلى مولاه لقوله تعالى:”أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ “.
ثم قال:
[brun]حَمْدُ الإلهِ واجبٌ فِي كُلِّ حَالٍ *** وَشُكْرُهُ مُسْتَمْطِرٌ فَيضَ النَّوَال
[/brun]
يَعني أنَّ حمد الله تعلى والثناء عليه واجب في كل حال أي في السرَّاء والضَرَّاء، أما الأوّل فهو الحمد في مقابلة النعمة، وأمَّا الثاني فكذلك لأنَّه ما
من ضرٍّ إلا وعند الله أعظم منه فعدم الزيادة على الضرِّ الذي نَزَلَ عَلَى الإنسان وحلَّ بِهِ نعمةٌ، وَهَذَا المعنى يَرجع إلى الرِّضَا بِحكمِ الله وتقديره. وأمَّا حَقيقة الحمد فله مَعنيَان: لغةً وعُرْفًا. أمَّا مَعنَاه لغةً فَهوَ مَصدر حَمِدَ وهو الثَّنَاء على المحمود بالجميل كَان في مُقَابَلة نعمةٍ أو لا فلا يكون الحمد لغة إلا باللسان. والحمد والمدح أَخَوَان وقيل المدح قد يكون قبل الإحسان بِخلاف الحمد فلا يَكونُ إلاَّ بَعدَ الإحسان. والمدح قد يكون منهيا عَنهُ وَالتَّحقيقُ أنْ العُرفَ وَالاستعمال فرَّقَ بَينهما حيث أنَّ الحمدَ لاَ يُستعملُ إلاَّ في الثناء على الله عكسَ المدح.
وَأمَّا حقيقة الحمد عُرفًا فَهو مُرادفٌ للشكر لغةً وهو فعل ينبئ عَن تعظيم المنعم بسبب كَونه مُنعمًا سواء كان ذلك الفعل باللسان أو بالجنان بأن تعتقد اتِّصَافه بصفات الكمال أو بِسَائِر الأركان وهو أن تُجْهِدَ جَوارحَكَ فِي طَاعة الـمَحمود.
وَأخبر الناظم في الشطر الثاني أنَّ شُكر الله تعالَى مُستَمْطِرٌ أي طلَبَ من الله تعالَى أنْ يُمطرَ فيضَ نَوَالِهِ وَعَطَائِه لأنَّ الشكر قيدٌ للنعمة وَسَببٌ لزيادة الرحمة لقوله تعالى: “لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ”. ومعنى الشكر لغةً قَد تقَدَّمَ أنَّهُ مرادفٌ للحمد عرفًا، وأمَّا مَعنَاه اصطلاحًا فَهو صَرْفُ العبدِ جَميعَ ما أنعمَ الله به عليه فيما خلق لأجله بأنْ يصرفَ بَصَرَه إلى النظر في كتابه وبديع مصنوعاته وهكذا سَمعه ولسانه وبَطنَهُ وَجَنَانه وفَرْجَه وَسائرَ أركانِه فَيصرفُ كُلاًّ فِي عِبَادته وما يَلزَمه من ضَرورياته ولعزة مَقَام الشكر قال تعالَى:”وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ”.
ثُمَّ قال:
[brun] فإنَّهُ هو الذي تَوَحَّدَا *** وبالجمال والكَمَال تَفَرَّدَا[/brun]
قوله: تَوحَّدَ أي بَقي وحدَه ولا شيءَ معه في الماضي والحال والاستقبال وكَيفَ يَكونُ مَعَه غيره وَالحَالُ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بالجمال والكمال فكلُّ مَا رأَيتَهُ مِن جَمَالٍ فَإنَّمَا هو مِن شُعَاعِ شَمسه وإشراق نور قدسه، مُعارٌ لمظاهر الوجود كي يَقَعَ عليها الشهود وإلاَّ فَمَتَى وَجدتِ الأشياءُ وجودًا حقيقيًّا حتَّى استقلَّتِ بالجَمَال بل هو مُستَعَار من الوجود الفرض و”اللَّه نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ُ”.
وَبعدَ أنْ حمد الله تعالَى وأثنَى عليه بصفات الجمال والكمال ثنَّى بالصلاة على نبيئه صلى الله عليه وسلم فقال:
[brun]
ثُمَّ صَلاَةٌ الله مَـــــــــعَ سَلاَمــه * علــــــى النَّبِيّ الـمصطفى وآله
كذا على الأصحاب والأتبَاع مَن* سَادوا وَشَادُوا واجبًا مَعَ السُّنَنِ[/brun]
امتثالا لقوله تعالى:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” وَاغتنامًا لما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ صَلَّى عَلَيَّ في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له”. وَفي رواية تُصلِّي عَلَيهِ مَا دَامَ اسمي في ذلك الكتاب”. وَمعنَى الصلاة مُختَلِفٌ باختلاف المصلي فإنْ كَانَت من سائر الخلائق وَلَو حَجَرًا أو شجرا فهي الدعاء والتضرُّعُ، وانْ كَانَت مِنَ الله فَهي الرَّحمة الـمَقرونَة بالتعظيم.
قال أستاذنا [[نَعْنِي به الشيخ العلاوي المستغانمي رضي الله عنه.]]: “الصلاة من الله على محمد صلى الله عليه وسلم هي تَجَلِّيه عليه القائل فيه: “لي وقت لا يسعني فيه إلا ربي”. وَقد اخْتُلِفَ هَل يَنتفع صلى الله عليه وسلم بصلاة الخلق عليه فقيل إنَّ نَفعَ الصلاة عائدٌ على المصلي فقط. والصحيح أنَّه ينتفع بِهَا أيضا لأنه مَا من كمال إلا وعند الله أعظم منه وأكمل غير أنه لا ينبغي التصريح بهذا القول ولا التشدّقُ به ولا يلاحظ ذلك الـمُصَلِّي.
ولذلك نقل الباجوري[[ابراهيم بن محمد الجيزاوي الباجوري ولد ببلدته الباجور من قرى مصر سنة 1198 وتوفي بمصر ودفن بها سنة 1276]] فِي “حاشيته على جوهرة التوحيد” قولَ بعضهم:
[brun]
وَصَحَّحُوا بأنَّه يَنتَفِــــــع * بذي الصلاة شأنـه مُرتَفِع
لكنه لا ينبغي التصريح * لنا بذا القول وذا الصحيح[/brun]
وأما إذا كانت الصلاة مِنَ اللهِ عَلَيه صلَّى الله عليه وسلَّمَ فالانتفاع بها مُحقَّقٌ لأنَّهَا لا تذهب سدى بلا فائدة ولا تعود فائدتها على الله فإنه الغني الحميد.
قَالَ أستاذنا رضي الله عنه في بعض أجوبته:”وَحُكمُ الصلاة عَليه الوجوب مرَّةً في العمر، وَالسنيَّةُ في التحية الأخيرة من الصلاة، وَقيلَ بِوجوبِهَا فَيها حكاهما ابن رشد في مُقَدِّمَتِه قال:
[brun]
وفي صلاتنا على النبي * في آخر التشهد المحكي
قل سنة وهو الذي أجازوا * وقيل فرض قاله المواز[/brun]
وَيندبُ الإكثار منها في سائر الأوقات وخصوصًا عند سَمَاع اسمِه صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ فقد قيل بوجوبِهَا.
وَأَمَّا السلام فهو الأمان. وَقَالَ :بَعضهم هو تَحيّةُ الله التي تليق بجنابه الرفيع صلى الله عليه وسلم. واختلف في حكمه والظاهر الوجوب مرة في العمر كالصلاة. واعلم أن الأكمل والأفضل الجمع بين الصلاة والسلام عليه لأمر الله بهما جميعا في قوله تعالى:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا”. ويَجُوزُ الاقتصار على الصلاة كما صَنَعَه مُسلم في صحيحه. والشافعي في خطبة رسالته. كما يَجوز الاقتصار على السلام والإتيان بالصلاة والسلام صدرَ الكتب والرسائل حَدَثَ في ولاية بني هاشم وقد جرى العمل على استحباب ذلك.
وَآلُ النَّبِئ يَختلفون باختلاف الـمَقَام فإنَّهم عند المالكية والحنابلة في مقام الزكاة هم المؤمنون من بني هاشم. وفي مقام الدعاء كل مؤمن ولو كان عاصيا لأنه أشدَّ احتياجا للدعاء من غيره. وَفي مقام المدح كل مؤمن تقي.
وَالأصحاب جمع صاحب وهو من اجتمع بالنبئ صلى الله عليه وسلم وآمن به ولو كان صبيًّا ومات على الإيمان بخلاف من اجتمع به مؤمنا ثم ارتدَّ وَمَاتَ على الكفر فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخَاسرين.
وَالأَتباع جمع تَابِعٍ وهو مَن اجتمع بالصحابي. ومَعنَى البيتين على سبيل الإجمال أنَّ الناظم يَطلبُ مِنَ الله تعالَى في صورة الخبر أنْ يُصَلِّي عَلَى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين سادوا غيرهم فمدحهم الحق بقوله تعالى: “رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ” فارتفع مَنارهم وعظمت أقدارهم وشادوا أي رفعوا واجبَ الدّين ومَسنونَه وشيَّدوا بنيانَه وحصونَه، جَازَاهم الله بما هو أهله من خير الداريْن وَجَعلنا لآثارهم من الـمُقتَفِينَ.
وَاختلف في الصلاة على غير النبيء استقلالا على أقوال الجواز والمنع والكراهة وإمَّا بالتَّبَع إليه فجائزة اتفاقا كما تَقول: اللهم صلِّ عَلَى سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وعلينا مَعَهم أجمعين والحمد لله رب العالمين ثم قال:…..
القسم الثاني صفات الله
في هذا القسم الثاني، يعرض الشيخ سيدي محمد المدني، بأسلوبه الراقي وتمحيصه الدقيق الى صفات الله عزّ وجل التي يَجب على المكلف معرفتها.
[brun] وَبَعدَ ذَا فَقَد نَظَمْتُ جُملةً * تَحوي عقائدَ الفَتَى مَضبَوطة
سَمَّيتُهَا كفايةَ المريد في * عَقَائد التَّــوحيد والتَّصَوُّف[/brun]
يَعنِي وَبعدَ الثَّناء على الله بِجَميل صِفَاتِه، وَالصَّلاة والسَّلام على النَّبِي، صلَّى اللهُ عَلَيه وَسَلَّمَ، وَأَدَاء تَحيَّاتِه، فَإنِّي قَد نَظَمت أُرْجُوزةً صَغيرةَ الحَجم تَحوي وَتَجمع جملةً من عَقَائد التَّوحيد، واجبةً معرفتُهَا عَلَى الـمُكَلَّفِ، مَضْبُوطةً ومُختصرةً كَيْ لاَ يَتَشَتَّتَ عَقل الـمُكَلَّف في دراستها أو يتعسَّر عليه الحفظ عند مطالعتها، فإنَّ كثرةَ الإطناب لاَ تُورثُ إلا شدّةَ الأتعاب َومَن أَوجزَ فَقد أنْجزَ، لذلك قَال الإمامُ اللقَّاني [[إبراهيم اللقاني، ناظم جوهرة التوحيد توفى سنة1041]]:
لكنْ مِنَ التَّطويل كَلَّتِ الِهمَم * فَصَارَ فيه الاختصار مُلتَزَم
وَقوله: “تَحْوي عقائدَ الفَتَى” أي الظاهرة والباطنة أو تقول عقائد الإيمان وَمشاهَدَة الإحسان، فإنَّ هاته الـمَنظومة تَشمَل عَلى مُجملِ التوحيد الذي به ثُبوتُ أَصل الإيمان وَعَلَى مُجملِ التصوُّف الذي به صَفَاءُ الجنَان أو تَقول حُصول الـمُشَاهَدَة وَالعيان.
وَأَخبَرَ في البيت الثاني أنَّه سَمَّاهَا “كفاية المريد” فإنَّهَا تَكفِي مَن اقتصَرَ عَليهَا لاشتمالها عَلَى وَاجبِ الاعتقَاد بقسمَيْهِ التصوُّف وَالتَّوحيد وَلا تَصدقُ تَسمية الثَّانِي إلا بالأَول. وقوله تعالى:” فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ” دَلِيلٌ عَلَى وُجوبِ هَذَا العِلم لأنَّ الأمرَ إذا أُطلقَ يَنصرف للوجوب، أيْ فاعْلَمْ أيَّها المكلف أنْ لاَ معبودَ بِحقٍّ مَوجود إلا الله كما يقول أهلُ البرهان أو فَاعلَمْ أنْ لاَ موجودَ عَلَى التحقيق إلا الله كما يذوقه أَهلُ العِيانِ.
وَلَمَّا كَانَ عِلمُ التوحيد قسمين: قسمٍ بالدَّليل والبرهان ويُسَمَّى علمُ الكلام، وَقِسْمٍ يَحصل بالذوق والوجدان ويُسَمَّى علمَ التصوّف والعلم الباطن، حَصَرَ النَّاظمُ هَاتِه المنظومَةَ فِي هَذَين القسمين وسيأتي الكلام على الثاني في مَحَلِّه.
أمَّا القسم الأول فقد شَرَعَ فيه حيث قال:
قسم أول في التوحيد بالدليل والبرهان
مَا جَرى عليه الناظم من تَقسيم التوحيد قِسميْنِ عامٍ وَخاصٍّ قَد جَرَى عَليه العلماء الأعلام والأجِـلَّةُ الفِخَام في تَآلِيفِهِم رضيَ الله عنهم. مِنْ ذَلكَ مَا ذكره ابنُ جُزَيْ الأندلسي [[مُحمّد بن احمد المعروف بابن جزيء الكلبي الغرناطي ولد سنة693 وتوفى مُجاهدا بطريف سنة741]] فِي كتابه الـمُسَمَّى بالقَوانين (الفقهية) وَلَفْظُهُ: “التَّوحيد نوعان عامٌ وخاصٌ، فالعام عدم الإشراك الجليِّ، وَالخَاصِّ عَدَم الإشراك الخفي. والجَلِيُّ هو مَقَام الإيمان الحاصل لجميع المؤمنين وعدم الإشراك الخفي هو مقام الإحسان وهو خَاصٌّ بالأولياء رضي الله عنهم أجمعين”. اه.
فَهَذَا القسم يُذكرُ فيه التوحيدُ الذي يَجِبُ عَلَى الـمُكَلَّف معرفتُهُ وَإقَامَةُ الدَّليل عَلَيْه لأَنَّهُ يَكُون عن حِجَابٍ مِنَ الـمُكَلَّفِ وَلَو رُفِعَ عَنهُ الـحِجَاب لَمَا احتاجَ إلى دليلٍ لأنَّ الحقَّ تَعَالَى، لِعَظَمَتِه وظهوره وَقِدَمِ نُوره، أعظمُ مِن أَنْ يُستَدَلَّ عَلَيه فَالدَّليل حينئذٍ لِأَهل الحجاب لاَ لأهل الوصُول والاقتِراب. وَلَمَّا كان أوَّلُ شَيءٍ يَجب على الـمُكَلَّف معرفةُ الله ورسُلِهُ بالصِّفَات التِي قَامَت الأدلّةُ عَلَى ثُبُوتِهَا إجْمَالاً أَوْ تَفصيلاً وَهوَ مَذهب الإمام الأشعري [[إمام أهل السنة ولد سنة270 وتوفى سنة330 وهو مالكي حسبما يدعيه المالكية أو شافعي ألف380 تأليفا.]] إمام هذا الفنِّ.
قَالَ النَّاظم:
[brun]
الواجبُ على الفَتَى الـمُحتَّـــــمُ * إقامة الدليل يَا مَن يَفهَم
على صفات الحق جلّ وَصْفُهُ * فإنَّ ذَاكَ لاَ يَجوز خُلْفُهُ[/brun]
يَعنِي أنَّ الواجبَ عَلَى الفَتَى الـمُكَلَّف والـمُحتَّم عَلَيه مَعرفةُ صفاتِ الله تعالَى وإقامةُ الدليل عليهَا وَهوَ أوّلُ واجبٍ على المكلف، على مذهب الإمام الأشعري، كَمَا تَقدَّم. وقيل أول واجب هو النَّظر الـمُوصِل للمعرفة وينسب للأشعري أيضا وبِه قال أبو إسحاق الاسفرائيني. وجملة الأقوال في أوّل واجبٍ اثنَا عَشَرَ قولاً يطول ذكرها هنا، مِنهَا القولاَن السَّابقَان.
وَالأصحُّ أنَّ أوَّلَ واجبٍ مَقصود لذاته هو المعرفة وأول واجب وسيلة لغيره هو النظر أي الفكر الموصل للمعرفة.
أمَّا اعتقاد الـمُقَلِّدِ مِن غَير دَليل فالذي عليه السُّنوسي [[محمد بن محمد بن يوسف السنوسي أصله من بني سنوس قبيلة بالمغرب توفى بتلمسان ودفن بها سنة 895 عمره 63]] في “كُبْرَاه”: “أنَّ تقليدَه لا يَكفيه في الإيِمان ولا يصحُّ لَه بِمعنَى يكون الـمُقَلِّدُ كافرًا”. وَهَذَا هو الذي مَشَى عليه الناظم حيث قال: “فإن ذاك لا يَجوزُ خُلْفُهُ”. وَالقَولُ الحقُّ الـمُعَوَّلُ عليه الاكتفاء بالتقليد مع عِصيان الـمُقَلِّدِ إنْ كَانَ فيه الأهلية للنظر وإقامة الدليل وإلا فلا عصيانَ. وَقيل يَكفي التقليد مع عصيان المقلد سواء تأهَّلَ للنَّظر أم لا. وَقيل:
“مَنْ قَلَّدَ القرآنَ والسنّة صَحَّ إيمانُه لأنهما قطعيان وإلا فلا”. وَقيلَ يَكفي التقليد مِن غَير عصيانٍ مُطلقًا والنظر إنَّما هو شرط كمال ومن ترك النظر وهو أهلٌ له فقد تَركَ الأَوْلَى وقد فصَّلَ بعضهم كالتاج السبكي [[تاج الدين عبد الوهاب السبكي المصري الشافعي توفى سنة771]] في المقلد فقال: “إنْ كَانَ جَازمًا جزمًا قاطعًا لا يرجع عنه ولو رجعَ المتبوع الذي قلَّدَهُ كفاه تقليده وإيمانه ويكون عاصيا بترك النظر إن كان متأهلا كما تقدم وإن كان غير جازم بِحيْثُ يرجع عن اعتقاده لو رجع المقلد بفتح اللام لم يَكْفِهِ التَّقليدُ”.
هذا وقال أبو منصور الماتُرِيدي [[ أبو المنصور محمد الماتريدي توفى سنة 333]]: “أَجمَعَ أصحابُنَا عَلَى أنَّ العَوَامَ مؤمنونَ عَارفونَ بربِّهِم وأنَّهُم حَشْو الجنة كما جاءت به الأخبار وانعقَدَ به الإجماع فإنَّ فِطرتَهُم جُبِلَت على تَوحيد الصانع وقِدَمِه وَحُدُوثِ مَا سوَاه وإن عجزوا عن التعبير عنه باصطلاح المتكلمين”.
ثُمَّ قَالَ:
[brun]
كَذَا عَلَى صِفاتِ رُسُلٍ قَد أَتَتْ * شَريعة النَّبِيء لذاك أثبتَـــتْ
وَمَا استحالَ نَحو كلٍّ منهمـــــا * كَذَا مَا جَازَ وَاجب أنْ يُعلَمَا[/brun]
يَعنِي كَما يَجب على الـمُكَلَّف أن يعرف الله تعالى بالصفات وإقامة الدليل عليها كذلك يَجب عليه أنْ يَعرف الرسل بالصفات وإقامة الأدلَّة عليها لأنَّهم عَلَيهم الصلاةُ والسَّلاَمُ مَظهَر التوحيد وعليهم نَزَلَ وَمنهم إلينا وصلَ. والمقلد في معرفتهم ضعيف الإيمان كالمقلد في معرفة الله وقوله: “شريعة النبيء لذاك أثبتت” أي أنّ معرفة الرسل ثابتة في شريعة النبيء صلى الله عليه وسلم، أَثبَتَهَا العُلَمَاء وَرثتُهُ رضي الله عنهم. وأخبر في البيت الثاني أنَّهُ يَجبُ على الـمُكَلَّف أيضا أن يعلمَ وَيَعرفَ مَا يَستحيلُ وَمَا يَجوز في حق الله تعالى وَمَا يَستحيل وما يَجوز في حقِّ الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وَإنَّمَا قَال “نَحوَ كلٍّ منهما” لأنّ الـمستحيلَ والجائزَ وَالوَاجبَ في حقِّ اللهِ غيرُ الواجب والجائز والمستحيل في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام.
ثمّ شرع في الكلام على ما يَجب لله من الصفات فَقَالَ:
[brun]الواجب لله من صفاته * عشرون فافهم واصفا لذاته
كلها قديمة لا تنـتهــــي * وما لها بدايــــة فانتبـــــــــــه[/brun]
يعني أنَّه يَجبُ لله عشرون صفةً بِمعنى يَجب على المكلف اعتقادها وَمَعرفَتُهَا مُفَصَّلَةً لأنَّهَا قَامَت عليها الأدلة العقلية والنقلية تفصيلاً. وَلذلك خُصَّت بالذكر دونَ غَيرهَا من بَقية الكمالات التي يَجب على الـمُكَلَّف اعتقَادُهَا إجمالاً بأنْ يَنسبَ سائرَ الكمالات لله عز وجل لأنَّهَا قَامَت عَلَيْهَا الأدلة إجمالاً. وأَخبَرَ الناظم في البيت الثاني أنَّ هَاتِه الصِّفَات كُلِّهَا قَديمةٌ ليس لها بداية ولا نِهَايَةٌ. فالعلم والقدرة مثلا قَديمَان بِمعنَى أنَّ اللهَ تعالَى عالِمٌ قادرٌ بِلاَ بِدَايةٍ لعلمه وقدرته ولا نِهايةَ لَهما. وَهَكَذَا بقية الصِّفَات. ولَمَّا كَانت الصفات العشرون تَنقسم إلى أربعة أقسام نفسية، وسلبية، وَمَعَانِي وَمَعنَويّة أَخَذَ الناظم في بيانِها مُقَسَّمةً فقال مشيرا للقسم الأول:
وهي الوجود صفة نفسية
هاته هي الصفة الأولى وهي الوُجُودُ وَتُسمَّى في اصطلاح أهل الكلام نَفسيّة. سُمِّيـت بذلك لأنها نَفس الذات العَلِيّة فَوجوده هو ذاته. وَهذَا مذهب الإمام الأشعري وهو أنَّ الوجودَ عينُ ذَات الباري جل وعَلاَ. حيث قال: “الوجودُ عَينُ الـمَوجودِ أي لا زائدَ عليها”.
قُلتُ هَذَا مَا يُصرِّحُ به القوم رضي الله عنهم في شطحاتِهِم فَيقولون: “مَا فِي الوجود إلا الله”. وَهو عَين قَول الأَشعري: “الوجود عين الموجود”. لكنْ مِنَ الناس مَنْ لَمْ تَتَّسع حوصلته لهاته القولَة فأنكرها. وَمِنهُمْ مَن آتَاهُ اللهُ نُورًا يَعقل به فَقَرَّرَها، “وَمَن لم يَجعل الله له نورًا فما له من نور”.
وَمِنهُم مَن قَال: “الوُجود غير الذات”. كالإمام الرازي [[ الإمام الرازي فخر الدين محمد توفى سنة 606]] وجماعة لمغايرة الصفة للموصوف ضرورةً فحقيقة الوجود عندهم هي حَال واجبةٌ للذات مادَامت الذات. وقد عرَّفَهَا أستاذنا رضي الله عنه (الشيخ العلاوي) بقوله: “الوجود هو كينونة الحق الآن وقبل الآن وبعد الآن”. والتحقيق أنّ الخلاف بَينهم في الوجود هل هو نفس الذات أو زائدٌ عليها لفظيٌّ، لأنّ الأشعريَّ يَقول إنَّ الوجودَ لَيسَ زائدًا على الذات في الخارج. فلا ينافي أنه حال اعتباري وهو مراد من قال بتغاير الصفة والموصوف. وهاته المسألة من غَوامض علم الكلام فلا يَجب على المكلف معرفتها إنّما الواجب عليه أنْ يعرفَ أنَّ اللهَ واجبُ الوجود لا شريك له.
ثُمَّ أَشَارَ للقِسم الثاني وهي الصفات السلبية فقال:
[brun]وبعدها خمسة هي السلبية
وهي القِدَم مَعَ البَقَاء وَالغِنَى * وَخَلفه أَيضًا لكلِّ خَلقِنَــــــــا
خامسها وَحدَته في الـــذات * كذاك في الأفعال والصفات [/brun]
فذكر خمسة صفات وهي القِدَم، وَالبَقَاء، وَالغِنَى الـمُطلق والمخالفة للحوادث والوَحدَانيّة.
وَسُميّت سَلبيَّةً لأنَّها دَلَّت على سلب ما لاَ يَليق به جلَّ وعَلاَ. قال أستاذنا: “سُميّت سلبية لأنَّهَا سَلَبت عن القلوب أن تعتقد ما لا يليق به عزّ وجل وإلا فأضداد هاته الصفات منفي عن الله قطعا من قبل أن نسلبه عنه”.
أما الصفة الأولى التي هي القِدَمُ فهي عبارة عن عَدَم الأَولوية لذات الباري جلَّ وَعَلاَ بِمَعنَى أنَّ وجوده تعالَى لَيسَ له بدايةٌ وبذلك يَنتفي الحدوث الذي هو ضد القِدَم. وإذَا أُطلق القِدَم في جانب الخلق كان عبارةً عن طول الزمان كأن تقول هذا البلد قديم أي طويل المدة.
الثانية: البَقَاء وهي عبارة عن عَدم الآخِرَيّة لذات الباري جلَّ وَعَلاَ بِمعنى أنَّ وجودَه تعالَى لَيسَ لَه نِهَايَةٌ. وبذلك ينتفى الفناء الذي هو ضد البقاء.
الثالثة: الغِنَى الـمُطلَقُ وَيُعبَّر عَنه بالقيام بالنفس وهو عبارة عن عدم احتياجه تعالَى لِشَيءٍ من الأشياء البتة بِمعنى أنَّه تعالَى قائم بنفسه لا يحتاج إلى مَحَلٍّ أَو مُخَصِّص لأن الذي يحتاج إلى مَحَلٍّ إنَّما هو الصفة تحتاج لموصوف تقوم به وتَحل فيه وهو تعالى ذات موصوفة بصفات ولا يَحتاج إلى مُخَصِّصٍ أَي فاعل يُخصصه بالوجود إلا الحادث أما ذاته تعالى وصفاته فقديمة وبذلك ينتفي الافتقار فهو تعالى موصوف بالغنَى الـمطلق وجميع العالمين خلقه مفتقرون له” يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ”.
القسم الثالث صفات الله
الرَّابعةُ: المُخالَفَة للحوادث، وهَي عبارةٌ عن عدم مُمَاثَلَتِه تَعالى للمخلوقات في الذات والصفات والأفعال. فهو تعالى مُنَزَّهٌ لاَ شريكَ لَه ولا شبيهَ. ” لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ”، لاَ يَتَحَيَّزُ فِي مَكَانٍ وَلاَ يُحيطُ به زمانٌ فَهو المحيط بكلِّ الأكوان: “والله بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ “. وهوَ مَعنَى قول الناظم:
[brun] وَخَلْفُه أيضا لكل خَلْقِنَا [/brun]
أي لِذَواتِنا وَصِفَاتِنا وَأَفعَالنا.
الخامسة: الوَحْدَانية وهي عبارةٌ عن عدم تعدُّده تعالى في الذات والصفات والأفعال فهو واحدٌ في ذاته وصفاته وأفعاله. أما وَحْدَتُه في الذات فهي كونُ ذَاتِه واحدةً أي ليست مُرَكَّبَةً من أجزاء كذواتِ المخلوقات وليس هناك ذات أُخْرَى تُمَاثِـل ذَاتَه. وَجَميع ذواتِ الأكوان أفعالٌ للذات وَمَظَاهرُ تجلياتٍ وَفَنَاءٌ وَخَيالاتٌ
فالكلُّ دونَ الله إنْ حَقَّقتَه * عَدَمٌ عَلَى التفصيل والإجمَال
وَهَذا هو المُسَمَّى “الفَنَاء في الذات” عند القوم رَضِيَ الله عنهم فَيَقولون لاَ موجودَ إلاَّ اللهُ، وَتَقَدَّمَ مَا فِي معناه.
وأَمَّا وَحدَته في الصفات فهي كون كلِّ صفةٍ من صفاته واحدةً ليس مَعَهَا ثانيةٌ في ذاته ولا توجد في غيره صفَةٌ تُمَاثِل تلكَ الصَّفَةَ فَسَمْعُه مَثَلاً القائمُ بذاته واحدٌ وَلَيسَ مَعَه آخرُ، ولا يوجَدُ في غيره سَمْعٌ يشبهُ سَمْعَهُ وقِسْ عَلَى ذلك سائِرُ صِفَاتِهِ.
فَإنْ قلتَ فَمَا مَعنى قولِكَ لاَ يُوجدُ في غيره سَمْعٌ يُشبِهُ سَمعَهُ وَالحَالُ أَنَّنَا نَرَى السمعَ موجودًا في كلّ فردٍ فردٍ وإنْ كَانَ لاَ يُسَاوي سَمْعَهُ تَعالى كما هو الشأن في كل شَبيهٍ لا يبلغ قوةَ شَبيهِهِ. وَهكذا سَائرُ الصِّفَاتِ المَوجودة في المخلوقات؟
قلت: إنَّ الصفاتِ التي في الموجودات أفعالُ اللهِ وَمِنه استمدادُها فَلَيسَ لَها ثبوتٌ مُستَقِلٌّ بَل مَرجعها لَه وَغَايَة مَا يقال فيها أنَّها آثارُ فِعْلِهِ. وَهَذَا هُو المُسَمَّى عند القوم “بالفناء في الصفات”، فَيقولون لاَ سميعَ ولاَ بصيرَ ولاَ مُتَكَلِّمَ عَلى التحقيق إلا الله.
وَأَمَّا وَحدَتُه تَعالى في الأفعال فهي عبارةٌ عَن كَونِه واحدًا في فعله بحيث لا فعلَ لغيره إلاَّ عَلَى طريق الكسب والاختيار الذي لاَ أَثَرَ لَه فكلُّ فعل وكل حركة وسكون إنَّمَا هو لِله وَحده: “وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ”. وَهذَا مَا يُسميه سادتنا الصوفية أيضا “بالفناء في الأفعال” فيقولون لا فاعلَ إلاَّ اللهُ.
وَلِعِظَمِ مَبحَثِ الوَحدَانية سُمِّيَ هَذَا الفنُّ بِعلم التوحيد وحُقَّ لَه ذلك لأنَّه عليه مدارُ أصل الإيمان والإيقان أو تقول المشاهدة والعِيَان، وَمَبحث الوَحدانِيَّة قد استغرقَ فيه أهلُ الحقيقة على سبيل الذَّوق والوجدَان، لاَ عَلَى سبيل الدَّليل والبرهان، فَرأوا أنَّ الكلَّ خَيالٌ معدومٌ ومفقودٌ وأنَّ اللهَ على الحقيقة هو الموجود وأنَّ الغيرَ ليسَ لَه أدنى فُسحةٌ أو فراغٌ ومن يَحِدْ عن ذلك فقد ضلَّ عَن سواء السبيل وزاغ لذلك قَال قائلهم:
اللهَ قُل وذر الوجود ومـــَــــا حَوَى * إن كنت مُرتادًا بُلوغَ كَمـــــال
فالكــلُّ دونَ الله إن حَقّقتَــــــــــــــه * عَدَمٌ على التفصيل والإجمال
إلى أن قَالَ:
والعارفون بربّهم لَم يَشهَــــــدوا * شيئًا سوى المُتَكبِّر المُتَعَــــــــال
ورأَوا سِواه على الحَقيقة هالكًا * في الحَال والمَاضي والاستقبَال
وقال غيرُه:
فَتَوَحَّد واتْرُكْ الكثرةَ عَن * وَهْمِكَ الحاجبَ عَنه واستَحِ
وَمَا ذلك إلاَّ لأنَّهم نَفَوا التعدّدَ حقيقةً وعلموا أنَّ الحقَّ واحدٌ في مُلْكِهِ، لاَ يشاركُه أدنى ذَرَّةٍ في أي مرتبةٍ من مراتب الوجود الأولية والأخروية والظهور والبطون فهو الأول والآخرُ والظاهر والبَاطِن. فَلَم تَبقَ الوَحدانيةُ مَحَلاًّ للغيريّة. ورأَوا أنَّ الحقَّ هو المتجلي بسائر الأَسماء والصفات أو تقول بالظهور والتجلَّيات فلم يحْجُبه إلاَّ شِدّةُ ظُهُورِه وَلضم يَبْطُنه إلاَّ عَظَمَة نُوره ولله دَرُّ أبي العباس المرسي [[أبو العباس المرسي توفي 683.]] رضي الله عنه:
ومَا احتَجَبَت إلاَّ لِرفْع حِجَابِها * وَمِنْ عَجَبٍ أنَّ الظهورَ تَسَتُّر
لَذلكَ تَرَاهم يُصرِّحُونَ في شطحاتهم ومُوشَّحَاتهم بما اقتضاه الحال والوجدان ولاَحَظه الجَنَانُ والعِيَان ولكنْ لَم يفصح عنه اللّسانُ ولَم يشرحه القلم أو يُعربْ عَنه البَنَان، فَقَام منازعًا لهم أهلُ العقول القاصرة والأذواق الخاسرة: فَمِنْ قائلٍ إنّهم يَنهَقون بالاتِّحاد وَمنهُم مَن يَقُول بالحُلول ومِنهم مَن رَمَاهُم بالاعتزال… وَالحَال أَنَّهم لا خبرَ لَهُم بالقَول ولاَ بِمَن قَالَ، تَحَلَّوْا بِحلة التوحيد وتجمَّلوا بحُلَى التفريد، لاَ يسمعون ولا يبصرون إلا بالله حَيث كان لهم الحقُّ سمعًا وبصرًا، كَمَا جَاء في الحديث القُدسي.
وقَد انتَصَبَ للجواب غيرُ واحدٍ من عُلماء الدين عن تلك الشطحات وأوَّلُوها بما يزيدُ اعتقادًا في جانب أَهل الله وإلى ذلك يُشير قولُ العَلاَّمَة المَقَرِّي [[أحمد بن محمد بن أحمد المقري أصله من تلمسان ونشأ بها ثم رحل إلى مصر وتوفي بها سنة 1041.]] في مَنظُومَتِهِ:
وَمُوهِم المَحـــذُور مِن كـــــــلاَمِ * قَومٍ من الصوفية الأعلام
جَرْيًا عَلَى عُرفِهِم المَخصوص * يَرجع بالتأويل للمَنْصُوص
ومَا يقولون بـــه في الشــــــطح * فَقيلَ غَيرُ مُقْتَضٍ للقَـــدح
وهو إلى التأويل ذو انتحـــــــال * وأنهم قَد غُــــــلبوا بالحال
وَقَد سئل أستاذنا العلاوي رضي الله عنه: “مَا هو الأمر الذي دَعَا علماءَ القوم للتصريح في شطحاتهم بكثير من الكلام المُشتَبِه؟”
فَقالَ:” دَعاهم الذي دَعا سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: “عَن يَمين الرَّحمَن وَكِلتَا يَدَيْه يَمِينٌ” الحديث… وَمَا مَقصدهم رضي الله عنهم إلاّ مقصد نبيِّهِم صلّى الله عليه وسلّم الذي (كان في) غاية التنزيه لذات الرحمان غير أنه يضيق الصدر ولا ينطلق اللسانُ. نَسأل الله تعالى أن ينظُمَنَا في سِلكهم ويَضُمَّنَا لحزبِهم آمين.
ثُمَّ انتقل الناظم للكلام على القسم الثالث من الصفات الذي هو صفات المعاني فقال:
[brun]( وَهَاكَ سبعًا بالمعاني تُعْرَفُ * أَثْبَتَها السنيّ وهوَ الأَشْرَفُ )[/brun]
يعني خُذْ سبعًا من الصفات تُعرَفُ وَتُسَمَّى عند المتكلمين بالمعاني وَهَاته الصِّفَات السبع أَثبَتَها أهلُ السنّة ونَفَاهَا المعتزلَةُ [[رئيس المعتزلة أبو هاشم بن محمد الجبائي يرجع نسبه لسيدنا عثمان رضي الله عنه توفي سنة 321 ولأبيه مقالات في مذهب الاعتزال.]] ولكنهم أَثبتوا لاَزِمَهَا الذي هو الصفات المَعنوية، ولذلكَ قَالَ الناظم أثبتها السنيّ وهو الأشرف أي الذي هو أشرف من غيره من حيثُ حسنُ اعتقاده ودِقَّةُ نَظَرِه،
ثمَّ أَخذ في بيان هاته الصفات فقال:
[brun]( أَوَّلُهَا الحياةُ في تَرتِيبنَـــا * فاسْمَعْ هَدَاكَ الله لطريقِنَـــا )
( إذ أنَّهَا ظاهرةٌ في الأول * وبَعدَهَا العِلمُ القَدِيم الأَزَلِــي )
( إرَادَةٌ مَعَ قُدْرَةٍ ثُمَّ البَصَرُ * وَهَكَذَا الكَلاَم وَالسَّمع الآخَرُ )[/brun]
فَأخبَرَ أنَّ أوَّلَ هاته الصفات هي صفة الحَيَاة فإنها ظاهرة في الأوَّل قبل جميع الصفات إذ لا تَتَّصِفُ أيُّ ذَاتٍ بصفة العلم أو القدرة مَثلا إلا بعد اتصاف تلك الذات بصفة الحياة. وَاعلَمْ أنَّ أوليةَ الحياة وقَبْليتها على جميع الصفات هي باعتبار الترتيب العَقْلِي لا باعتبار نَفسِ الأَمر الوَاقِع، وَكذلك الصفات بَعدَها فإنَّ الناظمَ رَتَّبَهَا تَرتيبًا عَقليًّا وإلاًّ فإنَّ صِفَاتِه تعَالى قديمةٌ بلا بداية، فَلاَ تُقَدَّم الوَاحدة على الأخْرَى وبيانُ هذا الترتيب العقلي أنَّ الذاتَ لا تتصف بالعلم إلا بعد الحياة ولا تتصف بالإرادة إلا بعد العلم ولا تأثيرَ للقدرة في أيِّ شَيءٍ إلاَّ بعدَ تخصيص الإرَادَة كَمَا لاَ يَتَعَلَّق البصرُ بشيءٍ إلا بعدَ أن تُبْرِزَهُ القدرةُ للخَارِج لأنَّ البَصَرَ لا يتعَلَّقُ بالمفقود. وقَدَّمَ الناظم صفةَ الكلام على السمع اقتداء بالكتاب العزيز حيث قال تعالى: ” فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ”. وَهَذَا معنى قوله: “أولها الحياة في ترتيبنا”.
واعلم أنَّ حقيقةَ الحياة مطلقًا أي في القديم والحادث هي صفةٌ تُصَحِّحُ لِمن قامت به أنْ يَتَّصفَ بالإدرَاكِ وَأَمَّا الحياة القديمة فهي صفةٌ أزَلِية لا تدركها العُقول، إنَّمَا هي شرط في نسبة سائر الكمالات لله عزّ وجلّ فهي صفةُ استواءٍ وإحَاطَةٍ وَاحتِوَاءٍ، وَضدَّ الحياة صفة المَمَاة المستحيلة عن الله عزّ وجلّ.
وأما العِلمُ فقد عَرّفه أستاذنا بقوله: “هو عِبارةٌ عن صفةٍ توجب لموصوفها أن يحيط خَبرهُ بكلِّ معلومٍ كَيفمَا كان” وضدَّه الجهل وهو مستحيل عن الله.
وَأَما الإرادةُ فهي صفة توجب لمَوصوفها ألَّا يَقَع في مُلْكِه إلا مَا شَاءَه واختارَهُ من جَميع الذوات والصفات والأفعال والجَوَاهر والأعراض ويستحيل ضد الإرادة وهو الكراهة فلا يَقع في مُلكِه إلا مَا يَشاء ويَختَار “مَا كَانَ لَهم الخِيرةُ”.
وأمَّا القدرة فهي قوة إلهيَّةٌ يتأتَّى بها إيجاد كلِّ ممكن وإعدَامُه على وَفقِ الإرادةِ فَقَولُه :”كُلُّ ممكن” أي سواء كان مُكتَسَبًا للعبد أو غير مكتسب له فأفعال المخلوقات كلّها إنما وجدت لتعلُّق قدرة الحق بها، خلافًا للقَدْرِية القائلين بأنَّ الأفعالَ الاختياريةَ لا تَتَعَلَّق بها القدرة وضدّها العجز وهو مستحيلٌ عليه تعالى.
وَأَمَّا البَصَر فهو صفة أزليّةٌ توجب لموصوفِهَا أن يتَّضحَ له كل موجودٍ كيفَمَا كانَ وضدَّه العمى وهو مستحيل.
وَأَمَّا الكَلاَم فَهو صِفةٌ أزليَّةٌ لاَزمةٌ لذات الباري مغايرة للحروف والأصوات يعبر عنها بِعباراتٍ مُختلفات كالتوراة والانجيل والزبور والقرآن فكلام الله حقيقة هو المعنى القديم القائم بذاته وإذا أطلق الكلام على القرآن مثلاً المكتوب في المصحف كقول عائشة :”مَا بَينَ دَفَّتَيْ المُصحف كلام الله” فَهو مجاز من اطلاق المدلول وارادة الدَالّ وضدَّ صفة الكلام صفة البُكْم وهو مستحيل عليه تعالى.
وَأَمَّا السمع فهو صِفةٌ تُوجب له تعالى أن لاَ يَخفاه شيءٌ من الموجودات، الأصواتِ وغيرها وضده الصَّمَمُ وهو محالٌ.
فهاته هي صفات المعاني السبع وهي: الحياة والعلم و الإرادة والقدرة والبصر والكلام والسمع ثم انتقل للكلام على القسم الرابع الذي هو الصفات المعنويَّة.
صفات الله المعنوية
[brun]
وُخُذهَا سَبعًا للمعــانـــي تَلزَمُ * بِمعنويةٍ يَا صَــــــــاحٍ تُوسَمُ
كَكَونه تَعلَى حَيًّا عَالِمًــــــــــا * مُريدًا أًيضًا قًادرًا مُتَكَلِّمًـــــــا
وَهَكَذَا إلى تَمام سَبعنَـــــــــــا * وقد نفَاها بَعض أَهلِ شَرعنَا
مُستغنيًا عَن ذِكرهَا بمَا سَبَق * لَكن ذِكرهَا هو الأَمر الأَحَــقُّ
[/brun]
يَعنِي وَخُذ سبعَ صفاتٍ لازمةٍ لِصفات المعاني المُتَقَدِّمَة تُوسَمُ وَتُسَمَّى بالصِّفَاتِ المَعنويّة وَقوله “يَا صاحِ” مُنَادَى مُرَخَّم بكسر الحَاء على لغةِ مَن يَنتظر والأصل يا صاحبِي وَبَيَّنَهَا بقوله: “كَكَونه تَعلى حيّا عَالمًا” أَي أنَّ الصِّفَات المَعنَويّة هي كَونُه تَعَلَى حَيًّا وَعالِمًا وَمريدًا وَقادرًا وَمتكلِّمًا وسميعا وبصيرًا ولم يُصَرِّح الناظم بكونهِ سَميعًا بَصيرًا وَلكنِّه أشارَ لهما بقوله “وهكذا إلى تمام شَرعنا” وَمعنَى لُزوم الصِّفَات المعنوية لصفات المعاني أَنّه إذا اتَّصَفَت ذاتُ بالقدرة مَثَلاً لَزِمَ أن تَكونَ تلكَ الذَّاتُ قادرةً وإذا اتصفت بالعلم لَزم كونها عالمةً وَهكذا بعبارة أَخصر يَلزَم من قيام صفاتِ المَعَانِي بالذَّاتِ اتِّصافُ تلكَ الذّات بالمعنوية وقوله:” وَقَد نَفَاهَا بعض أهلِ شَرعِنَا” أَي مِن أَهل السنَّةِ فَلَم يَذكروها في مُؤَلَّفاتِهِم كَابن عَاشر [[عبد الواحد بن أحمد بن علي بن عاشر أنصاري نسبا أندلسي أصلا فاسي منشأ ودارا توفي في شهر ذي الحجة سنة 1040.]] فِي “المرشد المعين” واللقَّاني في “جوهرة التوحيد” استغناءً منهم عن ذِكرهَا بذكر صفات المعاني أَو بِناءً منهم على مَذهَب الإمام الأَشعري القائل بِنَفْيِ الحَال أَي الوسَاطَة بَينَ الموجود والمعدوم وهذا هو المختارُ عند المُحقِّقينَ وأنَّه لاَ حالَ إما وجودٌ أو عدمٌ فقط. والصفات المعنوية عندهم عبارةٌ عَن قيام صفاتِ المَعَاني بالذات. وَقدَ مَشَى الشيخ السُّنوسيّ فِي “الصُّغرَى” عَلَى ثُبوتِ الحَال الذي هو وَسَاطَةٌ بَينَ الوجود والعدم وَأَثبتَ الصِّفاتِ المعنوية وتَبِعَهُ النَّاظم في ذلك اقتداء بأستاذنَا حيثَ أَثبَتَ الصفاتِ المعنوية فِي رسَالَتِه العَلاَويّة.
وقوله: “لَكن ذِكرُها هو الأمر الأحقُّ” مَعناهُ أنَّ ذكرَ الصِّفَاتِ المَعنويِّة والتصريحَ بهَا في الكُتب والمُؤَلَّفاتِ أحقُّ وأَولَى وإنْ كَانَت لاَزمةً لصفات المعاني لأنَّ علماءَ الكَلاَمِ لاَ يَكتفُونَ إلاَّ بالتصريحِ ولأنَّ الجميعَ أي مَن يَقول بنفي الحال ولم يذكر الصفات المعنوية ومن يقول بثبوت الحال مُتَّفقونَ عَلَى كونه حيًّا عليمًا مريدًا قادرًا سميعًا بصيرًا متكلمًا فَذِكرهَا والتصريحُ بها هو الأمر الأحق ثمّ قال:
[brun]
وَحَاصلُ الأَقسَام حقًّا أَربعة * نـــفسيّة سلبيّة مُتَّبَعَــة
ثمّ المعـــــــاني معنويّة فــذي * صفاتُه تَعلَى عدًّا فَخُذِ
[/brun]
يَعني أنَّ حَاصلَ أقسام الصفات العشرين الواجبة لله تعلى أربعة: نَفسيّة، وَسلبيّة، وَمَعَاني، ومَعنوية، فخذها أيها الطالب واعتن بحفظها باللسان واعتقادها بالجَنَانِ. ولمَّا أَنهَى كَلاَمَه على الصِّفَات ذَيَّلَهَا ببيان ما يتَعَلَّق منها فقال:
فصل فيما يتعلق من الصّفات
هذا الفصلُ ذَكَرَ فيه الناظم الصفاتِ التي تطلب مُتَعَلَّقًا أيْ تَطلب شيئًا زائدًا على الذات العَلِيّة تَتَعلق به. والمُعتَمَدُ عند المُحَقِّقينَ أنَّ التعلّقَ لا يكون لغير المعاني. وقالَ بعضهم يكون للمعنوية. وَلَمَّا كانت صفات المعاني باعتبار التعلُّق وعدمه تنقسم إلى أربعة أقسام: مَا يتعلق بالممكن وما يتعلق بالموجود وما يتعلق بالجميع أي بجميع أقسام الحكم العقلي وما لاَ تَعَلُّقَ له، شَرَعَ في الكلام على القسم الأول فقال:
[brun]
إرادَةٌ وقُدْرَةٌ تعلقـَـــــــــــــا * بمُمْكنٍ لنحو مَا قَد سبقـــــا
أولاهُمَا تخصيصها قد ثَبَتَا * ثانيهما التأثير منهَا قَد أَتَـى[/brun]
يَعني أنَّ الإرادةَ والقدرةَ يتعلقان بجميع المُمْكنات ولا يخرج عنهما شيءٌ منها إذ لو خرج ولو فردا جزئيا عنهما لَلَزِمَ وجودُ شريكٍ مؤثر في ذلك الفرد الخارج ولا شريك له تعلى وقوله تعلى:” إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ” وقوله:” إِنَّ اللَّهَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير” دليلٌ على عموم التعلق.
وَلَمَّا كانت جهة التعلق بين الصفتين مختلفة بينما في البيت الثاني فأخبر أنَّ الأولَ وهي الإرادةُ تتعلق بالممكنات تعلق تخصيص فتخصص كل ممكن ببعض ما يجوز عليه من الممكنات المتقابلات كان تخصص الجسم مثلا بالوجود دون العدم وبالبياض دون السواد وبالطول دون القصر والعقل دون الجنون مثلا وهكذا. وإن الصفة الثانية وهي القدرة تتعلق بممكنات تعلق تأثير أي إيجادٍ وإعدامٍ بمعنى أنها تؤثر في إيجاد وإعدامٍ ما خصصته الإرادةُ فهاتان الصفتان يتعلقان بجميع الممكنات وهذا هو القسم الأول.
وأما القسم الثاني وهو ما يتعلق بالموجود فقد أشار إليه بقوله:
تَعَلُّق السمع القديم والبصر * بكل موجود لدى أهلِ النَّظر
يَعني أنَّ سمعه تعلى وبصره القديمين يتعلقان بكل موجود سواء كان واجبًا كذات الباري أو جائزًا وقوله: “لَدَى أهل النظر” أَشَارَ به إلى ما ذكره الشيخ السنوسي ومن تبعه من أن السمع والبصر يتعلقان بكل موجود. وقال السَّعدُ [[سَعد بن عمر الملقب بسعد الدين التفتازاني ولد بتفتزان سنة 722 وتوفي بسمرقند سنة 792، نقل الى سرخس ودفن بها.]] وغيره إنَّ السمعَ يتعلق بالمسموعات والبصر يتعلق بالمبصرات وهو كلام يحتمل أنْ يُرَادَ به المسموعات والمُبصَرَات في حقِّنَا.
(فائدة) اختلف في صفة الإدراكِ فقال القاضي أبو بكر الباقلاني [[أبوبكر محمد بن الطيب الباقلاني من أهل البصرة وسكن بغداد توفي سنة 403.]] وإمام الحرمين [[إمام الحرمين أبو محمد عبد الله الجويني توفي سنة 438.]] بإثباتها لأنها صفةُ كمالٍ والحقُّ تَعَلى موصوفٌ بجميع الكَمَالات وهي صفة قديمةٌ قائمة بذاته يدرك بها الملموسات والمشمومات والمذوقات وعليه فهي تتعلق بالموجودات كالسمع والبصر. وقيل بانتفائها وقيل بالوقف. فالأقوال ثلاثة وإليها أشار اللقَّاني في جوهرة التوحيد فقال:
فهل له إدراك أو لا خُلْفٌ * وعند قوم صحَّ فيه الوَقْفُ
ثم أشارَ في القسم الثالث وهو المتعلق بجميع أقسام الحكم العقلي فقال :
[brun]
وَعِلمه تَعَلَى مع كلامـــــه * تَعَلَّقَا بسائر أقسامـــــــــــه
وَهَي المُحال واجبٌ وجائزٌ * والحافظ إليهَا هو الحــــائز
فَهَذه ثلاثــــــــــةٌ قَد ثَبَتَتْ * وبأقسام الحُكْم العَقْليِّ سُمِّيَت[/brun]
فأخبرَ في البيت الأولَ أنَّ علمَهُ تَعَلى وكلامه يَتَعلَّقان بسائر أقسام الحكم العقلي الواجبِ والجائزِ والمستحيلِ. غير أنَّ جهةَ تعلُّقِهِمَا مختلفةٌ فالعلم يتعلق بجميع الأقسام تَعَلُّقَ انكشافٍ فَكَمَا يعلم ذاته وصفاتِهِ الواجبةَ ويعلم جميع مَخلوقاته الجائزةَ يعلم استحالة الشريكِ والصاحبة والولد مثلا.
وَالكَلاَم يتعلق بجميع الأقسام تعلُّقَ دلالةٍ بمعنى يدلُّ على أنَّ ذَاتَه وصفاته واجبةٌ. وأنَّ الحوادثَ، جَوهَرِهَا وَعَرَضِها جائزٌ. وأنَّ الشريكَ والصاحبةَ والمُعينَ مَثَلا مستحيلٌ.
واعلمْ أنَّ مَعرفَة تعلُّقات الصفات غيرُ واجبةٍ على المكلف لأنها من غوامِض علم الكلام، إنَّمَا الواجبُ عَلَيه معرفة الصفات واعتقاد سائر الكمالات. قال القرطبي [[ توفي سنة 671 ]] :”إنَّ الخوضَ فِي تعلَّقات الصفات واختصاصاتها من تدقيقات علم الكلام وإنَّ العجزَ عن إدراكه غير مضرٍّ بالاعتقاد”. نقله العلامة مقديش الصفاقسي في كتابه “نُورُ الحقِّ المبين”.
وقوله “والحافظ إليها هو الحائز” يعني أنَّ الحافظَ لأقسام الحكم العقلي الثلاثة والفاهمَ لَها ولأمثلتها هو الحائز للعقل ولذلك قال إمامُ الحَرَمَيْن وجماعةٌ : “مَعرفَةُ هذه الأقسام الثلاثة هي العقل فمن لم يَعرفْ مَعَانِيها فليسَ بعَاقلٍ”.
وأخبَرَ في البيت الثالث أنَّ هذه الأقسامَ الثلاثةَ قد ثَبَتَت في هذا الفنِّ وسُمِّيت بأقسام الحكم العقلي ثمّ أَخَذَ في بيان حقيقة كل واحد منها فقال:
[brun]
أمَّا المُحَــــالُ فهو مَـــــا لاَ يُقْبَلُ * وُجُودُه وَلاَ فِـــــي الذهن يُعْقَل
مِثلَ الكتمـــان للرسول يَا فَتَــى * فَمُستَحيلٌ عندَنَــــــا أنْ يَثْبُتَــــــا[/brun]
أَمَّا حقيقة الحكم العقلي من حيث هو فهو ما استفيد من طريق العقل بحيث لا يَتَوَقَّف على عادة أو شرعٍ وإلى ذلك أشار في المرشد المعين بقوله:
وَحُكْمُنَا العَقْليٌّ قضيةٌ بلا * وقفٍ على عادةٍ أو وضعٍ جَلاَ
وقد عرّف الناظم القسم الأول من أقسام الحكم العقلي لأنَّه الحكم الذي لا يقبل بالعقل وجوده ومثَّلَ له في البيت الثاني بقوله “مثل الكتمان للرسول” فالكتمان في حقِّ أيِّ رسول مُحالٌ إذ لو كتموا شيئًا لكانَ كتمانهم طاعة يقتَدى بهم فيهَا لأنَّ اللهَ أمرنا باتّباعهم، كيفَ والكتمان معصيةٌ بنص القرآن: ” إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ” وقد قال لخاتمهم سيدنا ومولانا محمد صلّى الله عليه وسلّم: “يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ”.
واعلمْ أنَّ المثالَ الذي ذكرَه الناظم للمحال النظري أي الذي لا يدرك إلاَّ بعدَ النظر والتأمل ومثال المحال الضروري أي الذي يدرك بداهةً بلا تأمل خلوُّ الجرم عن الحركة والسكون فإنَّ خلوَّه عنهما مستحيلٌ ضرورةً. فالمحال قسمان ضروري ونظري ثم قال….
الواجب والجائز والمستحيل في حقّ الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
في هذا القِسْمِ، يُبيِّنُ الشيخ سيدي محمد المدني، رَحمَه الله، أقسامَ الصَّفات الربانية: الواجب والجائز والمستحيل في حقّ الله تعالى. وهو يعضد كلّ قسم بالأدلة العقلية والنقلية المناسبة مع تأكيده أنَّ أهلَ المعرفة بالله تكفيهم اللمحة الدالة حتى يَرَوْا يَقيناً أسرَارَ التوحيد الخالص.
[brun]
الوَاجِبُ الذي لا يَقبَل العَدَم * وجوده في العقل أمرٌ منحتمٌ
كالوَحدانيَّة فِي حــــقّ الله * فَلا تَكن عَن فلا تكن عن فهمها بساه[/brun]
يعني أنَّ الواجبَ لذاته هو مَا لا يَقبل العَدَمَ بأنْ لاَ يَتَصَوَّر العقل عَدَمَه، إنَّمَا يَتَصَوَّر وجودُهُ فَقَط. ولَمَّا كان الواجبُ عَلَى قسمين ضروري ونظري، أتَى الناظم بمثال للنظري فقال: ” كَالوَحدَانيّة في حقِّ الله” فإنَّ ثبوتَ الوحدانية لله عزّ وجلَّ أمرٌ مُنحَتِمٌ وَاجبٌ وَلَكنَّه بعدَ النَّظر والتَّأمل وإعمال الفكرِ. وَهَذَا عندَ أهل الدليل والبرهان. أمَّا عندَ أَهل الشهود والعيان فَالوحدانية أمرٌ ضَروريٌّ. ومِثَال الواجب الضروري تحيُّزُ الجُرمِ فإنَّ الجُرمَ مَا دَامَ موجودًا لاَبدّ وأن يأخذ حيِّزًا أيْ مَكانًا.
وقوله: “فَلاَ تَكن عن فهمها بساهٍ” أَي لا تكن أيّها الطالب غافلاً وساهيًا عن فهم الوحدانية فهمًا ذوقيًّا أو نقول شهودًا عيانيًّا فإنَّ اللهَ وحدُهُ ولاَ شيءَ مَعَه فهو الأوَّلُ والآخِرُ والظِّاهِر والباطن. وهَذا استنهاضٌ مِنَ النَّاظِمِ للطلَبَة كَي لاَ تَنحَطَّ بهم هممهم وتقتصر على مُجَرَّدِ إقامة الدَّليل فإن ذلك يقتضي ظهور الدليل أكثرَ منَ المَدلول عليه وكيفَ وهو النور الظاهر والمُحيطُ الحَاضرُ.
ثمَّ انتَقَلَ للكلام على القسم الثالث من أقسام الحُكْمِ العَقلي فَقَالَ:
[brun]
وَالجَائز ما يَقبَلُ الأَمرَيْنِ * وُجودًا وَالعَدمَ بغَير مَيْنٍ
وذَا كَفعل الله للأشياء * وَتَركها في العَدَمِ وَالفَنَاءِ
وكَأَعْرَاضِ البَشَر للرُّسل * كالمَرَض وشُربهم والأَكل
[/brun]
يَعني أنَّ حَقيقَة الجَائز مَا يَقبَل الأَمرَيْنِ: الوجودَ والعَدَمَ بِمَعنَى يُتَصَوَّرُ في العقل وجودُه وعدمُه. وقَولُه “بغير مَيْنٍ” أي بغَير شَكٍّ. ثُمَّ مَثَّلَ للجَائز بمِثَالَيْنِ: أَحَدِهِما بالنسبة للحقّ عزَّ وجَلَّ والثَّاني بالنسبة للرسل عليهم الصّلاة والسّلام. فالمثال الأول أشار له بقوله: “وذَا كَفِعل الله للأشياء”، الإشارةُ للجَائِز أيْ والجَائز في حقِّ اللهِ هُو فِعلُهُ لِجَمِيع الأَشياء وتَركه لها أي إيجادها وإبرازُها للوجود وإعدامها وتركها في حيِّزِ المَفقود فَيَجوز في حقه تعالى إيجاد جميع الكائنات وإعدامُهَا.
ثمَّ عَطَفَ النَّاظم المثالَ الثَّاني فَقَالَ: “وكأَعرَاض البَشَر للرسل” أي ومِثال الجائز أيضًا بالنسبة للرُّسُل عَلَيهم الصلاة والسلام الأَعرَاضُ البَشَريَّة فَهي جَائزَة فِي حَقِّهم مَا لم تؤدِّ إلَى نَقصٍ فِي مَرَاتِبِهم العَليَّة فلا تجوز عليهم وذلك كما يحكيه بعض المولعين بالحكايات في حقّ سيِّدنَا أيوب عليه السّلام وما أصابَه من الألم، نَعَم أصابه ألمٌ وَقَال الله في حقه: “إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ”. وَدَعَا رَبَّه بقوله :” أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ”.
وقال ابن عبَّاس [[عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مات بالطائف سنة 68 وعمره70]] أخبر عن ضعفه حينما لم يقدر على النهوض إلى الصلاة. ولكنَّه لم يبلغ به الألم إلى ما يحكيه المؤرِّخونَ لأنّ ذلكَ ينفِّرُ النفوسَ ويؤدِّي إلى النَّقصِ.
ثمَّ مَثَّلَ النَّاظِمُ للأَعرَاض البَشَريَّة الجائزة في حق الرسل بقوله: “كالمَرَض وشربهم والأكل” والزواج والنوم والبيع والشراء. وَإلَى هَذَا المعنى أشارَ في المُرشِدِ المُعين بقوله:
يَجوز في حقَّهِم كلُّ عَرَضٍ * لَيس مؤدِّيًا لنقصٍ كالمَرَض
واعلم أنَّ هَذَينِ المِثَالَيْن اللَّذَيْن ذَكَرَهمَا الناظم للجائز النظريِّ. وَمثَال الجائز الضروريّ حَركة الجسم أو سكونُهُ فَيَجوزُ عَلَى الجسم أنْ يكونَ مُتَحَرِّكًا أو ساكنًا.
ثمَّ أَخَذَ في الكلام على أدلَّةِ مَا تَقَدَّمَ من الصفات فقال:
فَصل في الأدلة والبَراهِين
دَلاَئل التوحيد مع صفاته بالعقلي و النقلي من آياته
يعني أنَّ دَلائلَ علم التوحيد والصفات الإلهية التي تُفَصَّلُ وتذكر في عقلية ونقلية أي سمعيّة من القرآن وهي المراد بقوله: “من آياته”.
أمَّا دَليل هذَا العلم وهو فنّ التوحيد فقوله تعالى: “فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ”. أَيْ فَاعرفْ واعتَقِدْ اعتقادًا جازمًا أنْ لاَ معبودَ بحَقٍّ موجودًا إلاَّ الله كما تَقَدَّمَ. وأمَّا أدلة الصفات فقد أشارَ الناظم لدليل الصفة الأولى منها وهي صفة الوجود فقال:
[brun]
وُجودُهُ جَلَّ الإلهُ في القِدَمِ * كَذا في الحَال وَالمَآل مُنْحَتِم
دَليلهُ المَخلوق حقًّا مُقتَضٍ * لِخَالق وفاعل مُــــــفَتَرَضٍ[/brun]
يعني أنَّ وجودَ الحقِّ تَعالى في القِدَم والحَال والاستقبَال أمرٌ مُنحَتِمٌ واجبٌ لاَ يَتَصَوَّرُ العقلُ عَدَمَه. وَهذَا تعريف الوجود وقد تقدَّمَ لَنَا. وأخبرَ في البيت الثاني أنَّ دليل وجود الخالق وجود المخلوق لأنَّ وجود المخلوق يَقتَضي خالقًا ولاَبدَّ، وَهَذا يَشعر به كلُّ فَردٍ من أفراد الإنسان من أيِّ مَرتَبَةٍ كَان إلاَّ مَن خَتَمَ الله على قلبه فكأنَّه من الضروريات التي لاَ تَحتاج لدليل فإن كانَ إنسانٌ يعلم أنَّ هذا الوجود لابد لَه من خالق خَلَقَه وفاعلٍ صَدَرَتْ عَنه هذه المَكَوَّنَاتُ وَهو الله جلّ وعلا.
وَقوله “مُفتَرَضٌ” أي مُقَدِّرٌ للأشياء ومُوجِدٌ لَهَا ووجوده فرضٌ واجبٌ لاَ كَوجودهَا الجائز.
واعلَم أنَّ هَذَا الدليلَ لأهل الحجاب، أمَّا أهلُ الاقتراب فعكسهم لأنهم يستَدلُّونَ بالخَالق على المَخلوق لأنَّ مِن أَسمَائِه الظاهر والظاهر يُستَدَلُّ به لا عَلَيه وشَتَّانَ بَينَ مَا يُستَدَلُّ به ومَن يُستَدَلُّ عَلَيه ثمّ أخذ في الكلام على دليل القِدَم فقال:
[brun]بِدَايَة الأَكوَانِ بُرهَانٌ علَى * وصف القدم إلَيه عَزّ في المَلاَ[/brun]
يعني أنَّ دليل ثبوتَ صفة القدم لله عزّ وجلّ هو بداية الأكوان وبدايتها أمر مُشَاهَدٌ لا يَحتاج لدليل، فإنَّ كُلَّ إنسانٍ يَرَى حدوثَ الجزئيات الكونية وبدايتها ولَيس للكون وجودٌ إلا بجزئياته، فَيلزَم قدمُ الحق تعالى ليبتدئَهَا ويوجِدَها ثمّ أخذَ في الكلام على دليل البقاء فقال:
[brun]ثمّ انتهاؤُهَا دليلُ للبقاء * فافهَمْ رَعَاكَ الله كي تَحقَّقَا[/brun]
يعني أنَّ انتهاءَ الأكوان دليلٌ قاطعٌ عَلَى ثبوت البقاء لله عزّ وجلّ وانتهاؤها أمرٌ مشاهدٌ لا يحتاج لدليل فيجب بقاؤه بعدها ليؤثر فيها الانتهاءُ والإعدامُ ثمَّ أتَى بقاعدة عامَّةٍ للقدم والبقاء فقال:
[brun]إذ كلُّ سابقٍ فالربُّ قبلَه * وكلُّ لاَحِقٍ فالحقُّ بَعدَه[/brun]
يَعني أنَّ كلَّ شيءٍ سبق وجوده وتقدَّمَ فاعلم أنَّ الله تعالى موجودٌ قديمٌ قَبله بلا بدايةَ لقبليته وكل شيء يَلحَق ويتأخَّر وجودُهُ فاعلَم أنَّ اللهَ تَعَالى موجودٌ بَاقٍ بَعده بلا انتهاء لبعديَّتِه فهو الأوّل والآخَر وقوله:
وكلُّ شيءٍ هَالك في شَرعنَا * قالَ الإلهُ إلاَّ وجهَ ربِّنَا
مَعناه أنَّ كلَّ شيء من الموجودات الكونيَّة هالكٌ في الحال والماضي والاستقبال لأنَّ “هَالك” اسم فاعل لا يختصُّ بزمان والمعنى لا أثرَ له في شيءٍ ما إنما المؤثِّر هو الله وحده. وقد اقتبس الناظم قوله تعالى :”كل شيء هالك إلا وجهه” ليفيد أنَّ اللهَ مع قِدَمه وبقاءه هو الموجود وغيره مفقودٌ ثمّ أخذ في الكلام على دليل صفة الغنى فقال:
[brun]وَهَو الغَنِيُّ في القرآن أَعَلِمتَ * وبِالغِنَى نَحو العظيم صَرَّحتَ[/brun]
يعني قوله تعلى: “وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ”، قد صرحتَ وأعلمتَ الجميعَ بثبوت صفة الغنى لله عزّ وجلّ على طريق الحصر لأنَّ تعريف الجزأين يفيد الحَصر فهو الغني والكلُّ مفتقر إليه :” يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ”.
ثم قال:
[brun]
وَكُلُّ صَانِعٍ خلافُ صَنعَتِه * بُرهـــــان خَلْقِه لكل خلقه
وَآَيـــــــةُ التنزيه في كتابنا * عدلٌ لما قَدَّمتُه نلتَ المُنَى[/brun]
ذَكَرَ في البيت الأول دليلَ مخالفته للحوادث أي في الذات والصفات والأفعال كما تقَدَّمَ. وَمُخَالَفَتُه أمرٌ مَعْلُومٌ مَشهودٌ للعُموم وهو أنَّ الصانعَ مُخَالِفٌ لِصنعته فالصانع مُؤَثِّرٌ وَالصَّنعَة أَثَرُهُ وَهَذَا العالم كلُّه بجَميع أجزائه صنعةُ البَاري عزّ وجلّ فَيلزم أن يكون مخالفًا غير مُمَاثِلٍ له في شيءٍ. وَيُعَبِّرُونَ عَن هَذا المعنى بالتنزيه لكونه ينبئ عن تَنزيهِ الباري عن جميع مَا في مَخلوقاته. وَالتَّنزيهُ عِبَارَةٌ عَن نَفي جميع النَّقَائِصِ التي لاَ تُنَاسِبُ الحقَّ وإثبَاتُ كلِّ كَمَالٍ يَليق بجلاله وهي غاية الاعتقاد. غَيرَ أنه مِنَ الناس مَنْ يُنَزِّهُهُ لسانًا فَقَط وفي قلبه شكٌّ وَرَيبٌ.
ثمَّ ذَكَرَ في البيت الثاني دليلاً سمعيًّا وأشار له بقوله: “وَآية التنزيه” وَهي قوله تعالى: “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ” وَهَي آيةٌ تدلُّ صراحةً على تنزيه الحق جلّ وعزَّ عَن مماثلة الخلق وهي شاهدٌ عدلٌ لِمَا تَقَدَّم من مخالفته تَعَالى لجميع ما خَلَقَه وقوله :” نِلتَ المنى” دعاءٌ للقَارئ ببلوغ المنى والمُرَاد من معرفة التنزيه الحقيقي الذي هو إفرادُه عَزَّ وجلَّ بالوجود. ثمَّ أَخَذَ في الكلامَ على دليل الوحدانية فقال:
[brun]
وقوله: “قُلْ هوَ اللهُ أَحَدٌ” * دَلَّت عَلَى أَنَّ الإلهَ واحدٌ.
كَذَا “لَو كَانَ فيهما آلهةٌ” * عَـــــلَى التوحيد آية بَيِّنَةٌ[/brun]
ذَكَرَ في البيت الأول دليلاً لوحدانية الحقِّ وَهو قوله تعالى لنبيّه عليه الصّلاة والسّلام: “قُلْ هوَ اللهُ أحَدٌ”. وهوَ دليلٌ سَمعِيٌّ يَكفِي أَهلَ الإيمان اللذين لاَ يَحتَاجُونَ لكثرة البحث والشقشقة باللسان ثمّ عَضَدَه بدليل ثانٍ وهو قوله تعالى: “لَو كَانَ فيهمَا آلهةٌ إلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا”. وَهَذا الدليل سمعيٌّ أيضًا لكنَّه يتضَمَّنُ حُجَجًا عَقليَّة يَطمئن بها القلبُ ويَرتَاح لَهَا الجَنَان وبَيَانُهَا أنَّه لو كان في العالم العُلْويِّ والسُّفليِّ آلهةٌ غيرُ اللهِ لَفَسَدَتَا واختل فيهما النظام والحالة أنَّه لاَ فسادَ بل كلُّ ذرَّةٍ مِن ذرَّات الوجود على غاية الإحكام والإتقان: “صُنْعَ الله الذي أَتقَنَ كلَّ شيءٍ” فَلَيسَ فيهمَا آلهةٌ إلاَّ الله وكلُّ مَن أَمعَنَ فكره ودقَّقَ نَظَرَه في جزئيات هذا العالم المُحكَمِ وَلاَحَظَه بعين بَصيرة رآه صُنعًا بَديعًا رَفيعا، كُلُّ ذَرَّةٍ مِن ذَرَّاتِهِ شَاهِدٌ عَدْلٌ عَلى وَحدَانِيته وانفراده في تصرُّفاتِهِ:
وفــي كل شـيء لـه آية * تـدل علـى أنّه الـواحد
ولأجل ما في هاته الآية من الحجج القاطعة والأنوار الساطعة وصفها الناظم بقوله : “على التوحيد آية بَيِّنَةٌ”. ثمّ قال :
حَيَاتـه والعـلم مَـعَ إرادَةٍ * دليـلها عَالَمــنَا كـــــقُدرَة
كـذلك القـرآن ناطـقٌ بهَا * والباقي من صفاته أمثالها
أشارَ بالبيت الأول إلى دَليل الحَيَاة والعلم والإرادة والقدرة ودليلها هو هَذا العالم المُحْكَم فَكُلُّ مَن نَظَره بعَين التَّفكير والاعتبار لا يَلبَث أنْ يَقولَ إنَّ مبدعَه لاَ بدَّ وأنْ يَتَّصفَ بهاته الصفات وبجميع الكمالات. وَهَذَا أمرٌ مُدرَكٌ ومعلوم لكلِّ فَردٍ كَأنه ضروريٌّ لأَفراد البَشَر على اختلاف طَبقاتهم.
وَلمَّا كانَ المؤمن في الغالب يتشوّف للدليل من الكتاب، قالَ الناظم:”كذلك القرآن ناطقٌ بها”.
أما الحياة فقوله تعالى:”الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم”. وأما العلم فقوله تعالى:”إنَّ اللهَ بكل شيء عليم”.
وأمَّا الإرادة فقوله تعالى:”إنَّ اللهَ يفعَلُ مَا يُريد”.
وأمَّا القدرة فقوله تَعالى: “إنَّ اللهَ عَلَى كلِّ شيء قدير”.
وأشارَ بالشطر الأخير إلى أَدلَّة بَقية الصفات التي هي السَّمع والبَصَر والكلام مُمَثِّلًا لَهَا بمَا تَقَدَّمَ من الصفات في البيت قَبله ووجه المماثلة والمشابهة أنَّ كلاًّ دَليله هذا العالم، فالعَقل يَحكم بأنَّ صَانعَه لا بدَّ وأنْ يَكون متكلِّمًا سَميعًا بصيرًا والقرآن العظيم ناطق بهَا أيضًا.
أما صفة الكلام فدليلها قوله تعالى:”وكَلَّمَ الله موسى تكليمًا”.
وأما السَّمع والبصر فقوله تعالى: “إنَّ اللهَ كانَ سميعًا بَصيرًا”.
واعلم أنَّي اختصرت في بيان الأدلة في المتن والشرح ولم أرتكب طريق الإطناب لأنَّ أدلَّةَ التوحيد كَادَت أن تكونَ فِطريَّةً لكل فرد وإنْ لَم يَنطق بها مُرَتَّبةً مُفصلَّةً مُنسقةً بالعبارات الاصطلاحية والقَضَايا المنطقية. وقد دُوِّنَت في ذلك العصر لاحتيَاج الناس إليها لكثرة الأمراض اليونانية والفَلسفية، أمَّا الآن فقد خَلُصَ الاعتقاد من جميع الشوائب والأمراض وإذَا وجدتَ من استولَت عَلَيه الفتنُ القلبيةُ فإنَّكَ تداويه بما يَصلح له من الأدلَّة الوقتية حسبما يَقتضيه الحال حتى تَسقيه من شراب التوحيد الطاهر الزلال.
ولمَّا تكلم على ما يجب لله من الصفات وتكلم على أدلتها حسب الإمكان انتقل للكلام على ما يستحيل في حق الباري جلَّ وعلا فقالَ:
فصل في المستحيل من الصفات
[brun]
ويَستَحـيل ضدَّ مَا تَـقَدَّمَا * من الصفات الواجبات فاعلما
كلُّ الكَمَال رَاجِــعٌ لِذَاتِه * وكُــــــلُّ نَقصٍ ثَابتٌ في خَلقِه
ســــبحانَه مُنَزَّهٌ كَـــمَالُه * تَعـَالَى وَصفُــــــــهُ جَلَّ جَلاَلُه [/brun]
أَخبر في البيت الأول أنه يستحيل على الله تعالى أضدادُ الصفات الواجبة المتقدمة، فالوجود صفةٌ واجبةٌ وضدها العدم صفة مستحيلة، والقدم صفة واجبة ضدها الحدوث صفة مستحيلة، وهكذا وقد ذُكرَت كلُّ صفة مستحيلة صحبةَ مقابلتها الواجبة في هذا الشرح، فلا فائدةَ في إعادتها، وألَّفَ قَوله فَاعلما منقلبةً عن نون التوكيد الخفيفة لأنها جاءت بعد فتح لقول ابن مالك [[محمد بن عبد الله بن مالك الطائي النسب، الأندلسي الإقليم الجَياني المنشأ، الدمشقي الدار توفي بها سنة 276 .]]:
وأبدلنـــها بعــد فــتح الـــــــفا * وقفـا كمـا تـقــول فــي قِـفَـنْ قِـفــا
ولما نفى جميع الصفات المستحيلة أخبر في البيت الثاني أنَّ كلَّ كمالٍ راجعٌ لله وإذا وجد كمالٌ في خَلقه فهو في الحقيقة راجعٌ لله عزَّ وجلَّ إذ لا شريكَ له في جميع صفاته الكمالية وأنَّ كل نقص والمراد به الصفات المستحيلة ثابت في خلقه فهم معدومون ووجودهم مستعارٌ، حَوادثُ، فانونَ مفتقرون، عاجزون جاهلون، وهكذا تلك أوصافهم الذاتية لهم، أمَّا الحقُّ خَالقهم فهو الموصوفٌ بكلِّ كَمَالٍ، المنزه عن كل إخلالٍ، مَا لَه في علو كماله مثال تنزه كماله وجل جلاله، وإلَى ذلك أشار بالبيت الأخير ثم انتقل للكلام على ما يجوز في حقه عز وجل فقال :
فصل في الجائز في حقه تعالى
[brun]
وجـائز نحـــو العــظيم ربنا * فعل وترك وكذا فقر غنى
فيغني من يشا بمحض فضله * ومــــن أراد يفقـر بعـدلـه[/brun]
يعني يجوز في حق الله أن يفعل أي يخلق جميع الممكنات ويتركها في حيز العدم فلا يجب عليه خلق ولا ترك ولا إحياءٌ ولا إمَاتة، والفقر والغنى بمعنى يجوز عليه أنْ يُفقرَ مَن يَشَاء مِن خلقه ويمنعه من مَتَاع الدنيا عدلاً منه، لاَ مُعَقِّبَ لحكمه، وإن يُغني مَن يشـاء منـهم ويعـطيـه من خــزائـن فضـله وكـرمه فالفضل بيده لا ممسك بفضله ثم قال :
[brun]وهكذا العـطاء والمنع وما * من مـانع أو موجـب فيلزم
وكل فعل جائز يا ســامع * عليك هذا القول فهو جامع [/brun]
يعني وكذلك يجوز عليه تعالى العطاء والمنع فيعطي مَن يَشَاء ويمنع من يشاء، وليس هناك مانع يمنعه أو موجب يوجب عليه فيلزم بالعطاء أو المنع وأخبر في البيت الثاني أن كل فعل جائز عليه ان شاء فعل وإن شاء ترك وهو قول جامع عام لجميع جزئيات الفعل ثم انتقل للكلام على ما يجب على المكلف معرفته في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام فَقَالَ:
فصلٌ في مَا يَجبُ للرُّسل عليهم الصلاةُ والسَّلاَم
اعلمْ أنَّ عُلَمَاءَ الكلاَم كَانوا يتكلَّمونَ فِي التَّنزيه فَقَط، وَلَم يُدَوِّنوا فَي بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام. وَأَوَّلُ مَن دَوَّنَ في البعثة الإمام أبو الحسن الأشعريُّ فإنَّه قَد تَمَّمَ العَقَائد بمبحث البعثة. واقتَفَى أثَرَه مِن بَعدِه جَميعُ مَنْ أَلَّفَ فِي علم الكلام. وقَد وَجَبَ الكلام على الرُّسلِ وصِفَاتِهِم لأنَّهم الوَاسطَةَ في انتشار التوحيد وإثبَاتِه فِي قلوب الخَلقِ. ولَمَّا كان الرُّسلُ أفضلُ الخَلاَئق قال الناظم :
[brun]واعلمْ بِأن رسله خير الورى * خَلْقًا وخٌلْقًا فاطرَح عنكَ المرا[/brun]
يَعنِي: اعلمْ أَيُّهَا المُكَلَّف أنَّ رسلَ الله هم خيرُ الخَلائِقِ وَأفضَلُهُم خَلقًا، بِفتح الخَاء المُعجَمَة وسكون اللام، الفِطرة. ومُرَادُ النَّاظِم مِنه الصُّورَة والذَّات. وخُلُقًا بِضَمِّ المُعجَمَة وتسكين اللام، أَو تضم الطبيعة. فَالرُّسل أَفضلُ الخلائق صورةً وسجيةً. اختَصَّهُم الحَقُّ تَعَالَى مِن هَذَا العَالَم وَجَعَلَهم مَهبِطًا لِوَحْيِهِ، ومَظهرًا لِأمره ونَهيه، وهذَا ممَّا اتَّفقَ عَلَيه جَميع الأمم قديمًا وحديثًا. فلاَ خلافَ فِي أيِّهِم أَفضلُ البَشر. ولِمَا لَهم مِن مَزيد الفَضلِ، آخْتُصُّوا بالصَّلاة عليهم. لذلك قال الناظم :
[brun]صلى عليهم ربنا طول المدى * كذا على أصحابهم أهل الهدى[/brun]
قدْ تَقَدَّمَ مَعنَى الصَّلاة أوَّلَ الكتاب. والمَدَى، بِفَتح الميم والدال، مُرَادُ النَّاظِمِ مِنه الزَّمان. وَهَي جُملَةٌ خَبَريّة أَرَادَ النَّاظم بها إنشاءَ الصَّلاة عَليهم وَعَلَى أَصحَابهم أهلِ الهُدَى أيْ الذين اهتدوا بهداهم، فَكَانُوا أهلَ هُدًى يُهتدى بهم، حتى قال صلَّى الله عليه وسلم في أصحابه: “أَصحَابِي كالنُّجوم بأيّهِمْ اقتَدَيتُم اهتَدَيْتُم”. ولَمَّا كَــانَ الرُّســل أفــضلَ الخلائــق وَجَـبَ أنْ يَكُـونـوا مُخْتَــصِّيـنَ بصـفاتٍ تُميّزهم، يَجبُ عَلَى المُكَلَّف معرفتها ولذلك قال:
[brun]
فَواجبٌ نحــو الكرام رسلنا * أَمَانَــةٌ تبلـيغهم لشرعنا
وصـــدقهم كـذلك الفـــطانة * فـهذه أوصــافـهم أربعة[/brun]
أما حَقيقة الرسول فهو رجلٌ أتاه الله شرعًا وأَمرَه بتبليغه وكذلك النبي، إلاَّ أَنَّه لَم يُؤمَرْ بالتبليغ، إنَّما يُبلِّغُ النَّاسَ أنَّه نَبي لِيُحتَرَمَ.
واعلَمْ أنَّ عَدَدَ الأنبياء قيل مائة ألفٍ وَأربعة وعشرون ألفًا، وقيلَ مائتَا ألفٍ وأربعة وعشــرون ألفًـا.
وأمَّا الرسل فهم ثلاثمائة وثلاثةَ عشرَ أو أربعةَ عشرَ أو خمسةَ عَشرَ، خلافٌ. والأسلَم الإمساكُ عنهم لقوله تعالى لنبيّه: “مِنهُمْ مَن قَصَصَنَا عَليكَ ومِنهم مَن لَم نَقصُصْ عَلَيكَ”.
وَالوَاجِبُ عَلَى المُكَلَّف أنْ يَعرف منهم خمسةً وعشرينَ للتصريح بأسمائهم في القرآن. وقد نظمهم الإمام سيدي أحمد الدمنهوري رضي الله عنه فقال :
إلا أنَّ إيمـــــــــــانًا برسل تحتمــــا * وهــــم آدم آدريس نوح على الولا
وهود وصالح لوط مع إبراهيم أتى * كذا نــــجله إسماعيل إسحاق فضلا
ويعقــــوب يوسف ثم يتلو شعيبهم * وهارون مع موسى وداود ذو العلا
سليمــــان أيوب وذو الكفل يونس * واليـــــاس أيضا واليسع ذاك فاعقلا
كذا زكرياء ثم يحيى غلامـــــــــه * وعيســــــــــــى وطه خاتما قد تكملا
وقـــــد تمّ نظمي جمع رسل مرتبا * لهــــــــم حسب إرسال كما قاله الملا
عليهـــــــــــم صلاة الله ثم سلامــه * يدومـــــان ما دام الأراضي وما علا
فيا ربنا فرج كروبي بجــــــاههم * وبالآل والأصحــــــــــاب ثم الذي تلا.
وأمَّا أولو العَزم منهم فخمسة وهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلّم وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح. وقَد نَظَمَهُ بَعضُهُمْ عَلَى هَذَا التَّرتِيب فَقَالَ:
مُحَمَّدٌ إبراهيم موســـــــى كليمه * فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلم
وأخبرَ الناظمُ أنَّ المُكَلَّفَ يَجِبُ عَلَيه أنْ يَعتَقِدَ أربعَ صفات واجبة للرسل عليهم الصلاة والسلام.
الصِّفَةُ الأولى هي الأمانة: وهي حِفظُ ظَوَاهِر الرُّسل وَبَواطِنِهم من التَّلَبُّس بمنهيٍّ عَنه ولَوْ نَهيَ كَرَاهَةٍ أو خَلافِ الأَولَى، ولَو قَبلَ النُّبوَّةِ، وإذَا صَدَرَ منهُم مُبَاحٌ فَلِأجل التَّشريع، فَيَصير طاعةً بهاته النية، “والأعمال بالنيات”. ومَا صَدَرَ منهم مما ظاهره المَعصية فذلك من باب معاتبة السيِّد لِأَخَصِّ عَبيده وأعزهم عنده لسرٍّ بَينَهم وبين سيِّدهم، فَلاَ يَتَدَاخَل فيه غيره من بقية الخلائق وهَاتِه الصِّفة مُشتَرَكةً بين الأنبياء والرسل. الثانية التبليغ: بمَعنَى أَنَّهم عَلَيهم الصلاة والسلام بَلَّغُوا جميعَ مَا أَمَرَهُم الله بتبليغه للخلق من الشرائع ولم يكتموا شيئًا منه بخلاف ما خُيِّرُوا فِي تَبليغه أو أُمِرُوا بكتمانه إلا على أهله من العلوم الخفية التي لا يعلمها إلا الراسخون. ولذلكَ قال بعضهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “هَل أُحَدِّثُ بِكُلِّ مَا أَسمع منك يا رسول الله؟”، فَقَالَ له: “إلاَّ بِحَديثٍ لَم يَبلغْ عُقولَ القَوم فَيكون على بعضهم فتنَةٌ”. وقد قال أبو هريرة [[أبو هريرة واسمه عبد الرحمن بن صخر مات سنة 59]] رَضيَ الله عنه ما معناه: “أَعطَانِي خَليلي مُحمدٌ، جِرَابَيْن مِنَ العِلم: أَحَدَهُمَا بَثَثْتُه، والآخَرُ لَو بَثَثْتُه لَقُطِعَ مِنِّي هَذَا البلعوم”. نَقَلَه ابن عبد البر [[ابن عبد البر أبو عمر توفي سنة 463]]. وَقَد نُقلَ فِي مَعنَى ذَلكَ كثيرٌ مِنَ الأَقوال عَن بَعض الصَّحَابَة الخاصة رضي الله عنهم الذين كانوا أهلاً لحمل الأسرار التي لم يقدر على حملها البعض الآخَرُ، وإنْ كَانوا جميعُهُم عُدُولاً مَحفوظين.
وَمِن ذَلك مَا صرّح به الإمام علي رضي الله عنه [[الامام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قتله عبد الرحمن بن ملجم الخارجي بالكوفة سنة 40]] فِي بعض خُطَبِهِ: “بَل اندَمَجَت عَلَى مَكنونِ علمٍ لَو بُحت به لاضطَرَبْتُم اضطرابَ الأرشية في الطوية البعيدة”، نَقَلَه في نهج البلاغة.
ومِمَّا ينقل عن زين العابدين رضي الله عنه قوله [[زين العابدين علي بن الحسين بن علي كرم الله وجهه توفي سنة 94 ودفن بالبقيع في القبر الذي دفن فيه عمه الحسن داخل قبة العباس وعمره 57]]:
يَا رُبَّ جَوهَرِ علمٍ لَو أبوح به * لقيــل أنت ممن يعبد الوَثَنَا
ولَاسْتَحَلَّ رِجالٌ مسلمون دمي * يرون أقبحَ مَا يَأتونه حسنًا
وقد قال عليّ كرم الله وجهه: “وَعَى أَبو ذرٍ [[
أبو ذر الغفاري رابع الصحابة إسلاما توفي بالربذة سنة 32]] علمًا عَجَزَ عَنه الناس ثم أوكأ عليه فلم يخرج منه شيئا”، نَقَله في “مَعالم الإيمان”.
وَعَلَى كُلِّ حَال يَجبُ عَلَى المُكَلَّف أنْ يَعتقد أنَّ الرُّسلَ بَلَّغوا ما أمرهم الله بتبليغه.
الثالثة الصدق: فَيَجبُ عَلَى المُكَلَّف أنْ يَعتَقِدَ أنَّ الرُّسلَ عليهم الصلاة والسلام أكملُ خَلق الله في النباهة والفطانة ثم قال:
الأدلة على صفاتهم عليهم الصلاة والسلام
[brun]واعلم بأنَّ صِدقَهُم في الخَبر * بالمعجزات الباهرات الغُرَر
والصّدقُ أَيضًا للصِّفَات مُثبَتٌ * فهذه الأوصـــــــاف والأدلّة[/brun]
أَخبرَ في البيت الأول عن دليل صدق الرسل عليهم الصلاة والسلام ودليله هو ما أَتَوْا بِه مِنَ المُعجزَاتِ البَاهرة والآيات الظاهرة التي عَجَزَ عَن مُعَارَضَتِها بَقيَّةُ البَشَر على اختلاف طبقاتهم ومشاربهم وأزمنتهم وأمكنتهم.
مِن تلكَ المُعجزات مَا ظَهَرَ فِي أَزمنةِ الرّسل ثمّ انقرضَ كَنَبع المَاءِ مِن بَينِ أَصَابِعه الكَريمَة صَلّى الله عليه وسلّم. وتسليم الحجر عليه وغير ذلك من المعجزات التي قصها التاريخ علينا وهو أعدَلُ شَاهِدٍ.
ومِنهَا مَا هُوَ مُستَمِرٌّ إلَى زَمانِنا ويَبْقَى إلى يوم القيامة وهو القرآن العظيم فقد عجز جميع البشر عن الإتيان بمثل أقل سورة منه وقد قال تعالى فيه: «لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا».
وقَد جَمع القاضي عياض [[القاضي عياض بن موسى أصله أندلسي ولد بسبتة سنة 496 وتوفي بمراكش سنة 544 ودفن بباب ايلان داخل المدينة]] في “الشِّفَا” مِن وُجوه إعجاز القرآن ما يغنينا عن طول الإيضاح والبيان. ومن تلك المعجزات إخبَارُهُمْ بِالمُغَيَّبَاتِ التي ظَهَرَ الكثير منها كفتح الأمصار واستخراج المعَادِن، وَلاَ زَالَتِ الأَيَّامُ تَلِد غَرَائِبَهَا التي أَخبر بها الرسل عليهم الصلاة والسلام.
ثُمَّ أعلَنَ أنَّ المعجزةَ هي أَمرٌ خَارقٌ للعَادَة يَعجز الخلق عن الإتيان بمثله يقع على يد مُدَّعِي الرسالة، يَكونُ مقرونًا بالدعوى، فإذَا وَقَعَ من النبي قبل نبوته كتظليل الغَمَامَة سيدَ الوجود صلَّى الله عليه وَسَلَّم فإنَّه يُسَمَّى “إرهاصًا”. وإذَا وَقَعَ على يد الوليِّ يُسَمَّى “كرامةً”، وإذا وقع على يد المؤمن من حيث هو فَمَعُونَة، وإن وَقَعَ عَلَى يَد الفَاسق. فإنْ بَرَزَ عَلَى خلاف ما أراده فَيُسَمَّى “إهانة”، كَمَا وَقَعَ لمسيلمة الكذاب، فإنَّه تَفَلَ في عين أعورَ لِتَصِحَّ عَينُه فَعَمِيَتْ الصحيحة. وإنْ بَرَزَ كَمَا أَرَاد وَقَصَدَ فهو “الاستِدرَاجُ وَمَكْرٌ مِنَ الله به”.
وَقَد نَظَمَ بعضهم أقسامَ الأَمر الخارق للعادة فقال:
إذا مــــــا رأيت الأمر يخرق عادة * فمــــــــــــعجزة إن من نبي لنا صدر
وإن بــــــــان منه قبلَ وصف نُبُوَّةٍ * فالإرهاص سمه تتبع القوم في الأثر
وإنْ جَـــــاءَ يومًا من ولي فإنه الـ * كرامـــــة في التحقيق عند ذوي النظر
وإن كان من بعض العوام صدوره * فكـــــــــــــــــونه حقًّا بالمعونة واشتَهَر
ومِن فَاسِقٍ إن كان وَفقَ مُـــــــرَادِه * يسمـــــــــى بالاستدراج فيما قد استقر
وإلا فيدعـــــــــــى بالإهانة عندهم * وقـــــــد تمت الأقسام عند الذي اختبر
وأخبر الناظم في لبيت الثاني أنَّ دليلَ الصِّدق يدلُّ عَلَى ثبوت بقية الصفات فإنه مَهمَا ثَبَتَ صدقهم بمعجزاتهم لابدَّ وأنْ تَثبت لهم الأمانة والتبليغ وإلا لما كانوا صادقين ولابدَّ أن تثبت لهم الفطانة إذ البليد لبلادته يَتَمَكَّن له الكذب، أمَّا ذو الفطانة فلا يقدم على شيء حتى يَعلَمَ عاَقبَةَ أمره، يَعَلم حكمَ الله فيه.
وقوله:”فَهَذِهِ الأوصاف والأدلَّة” واضحٌ، أرادَ به تَتميمَ البيتِ.
ثُمَّ أَخَذَ في الكلام على المستحيل والجائز في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام فقال:
المُستَحيل والجائز في حقِّهم
[brun]وَيستحيل وصفهم بالغفلة *** كالكذب والكتمان والخيانة[/brun]
تَقَدَّمَ مَعنَى المُستَحيل وهو ما لاَ يَقبَل الثبوتَ عَقلاً فضدُّ مَا تَقَدَّمَ من الصفات الواجبة للرسل عليهم الصلاة والسلام لا يَقبَلُ الثُّبوتَ فَهو مُستحيلٌ، فَيَمتَنِع عقلاً وصفُ الرسل بالغفلة التي هي ضد الفطانة وبالكذب الذي هو ضد الصدق وبالكتمان الذي هو ضد التبليغ وبالخيانة التي هي ضد الأمانة ثم قال:
[brun]وَجَائِزٌ في حَقِّهم وصفُ البَشَر * مَا لَم يَكن نقصًا فَذاكَ لاَ يُقَرّ[/brun]
يَعنِي يَجوزُ في حَقِّ الرُّسل عَليهم الصلاة والسلام الأوصاف البشرية أي التي تطرأ على البشرية كالمَرَض والجوع والنوم والنكاح والأكل والشراب وغير ذلك. وَلاَ نَقول كمن قال الله في حقهم: «وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ»، فَالأَوصاف البشرية جائزة في حقهم إلا إذا أدَّت إلَى النَّقص في مراتبهم العلية بأن كانت مما تشمئز منه النفوس الأبية فإن مقام الرسالة أرفعُ وأجلُّ، فَهم أَفضَلُ خَلق الله مختارون من هذا العالم خَلقًا وخُلُقًا ولذلك قال:
[brun]فَهُم أَجَلُّ خَلقِ اللهِ صَفَةً * وأفضل الورى جميعا رفعةً[/brun]
يَعنِي أنَّ الرُّسلَ عَلَيهم الصلاة والسلام أجلُّ أَي أَعظَمُ خَلق الله إنسًا وجنًّا وملائكةً حتى رؤساؤهم على ما ذهب إليه الأشاعرة، فَعِلمُ الرُّسل أوسع وقدرهم أرفع. وقال الماتريدية: “الأنبياء أفضل من رؤساء الملائكة كجبريل وميكائيل ورؤساء الملائكة أفضل من عوام البشر كأبي بكر [[وعمرأبو بكر الصديق رضي الله عنه أفضل هاته الأمة بعد نبيها مات سنة 13 عمره 63 سنة وعهد بالخلافة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.]] ” [[أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه توفي سنة 23 عمره 63 واما الشهيد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه فاستشهد سنة 35 وعمره 82.]].
فَلَيسَ المراد بعوام البشر الفساق منهم وعوام المؤمنين كأبي بكر وعمر أفضل من عوام الملائكة كحملة العرش. وَقَد جَعَلَ الله التفضيل بين خلقه فجعل البشر أفضل من بعض الملائكة كما جعل التفضيل في الخاصة من كل فريق وتلك حكمته الباهرة ولذلك قال تعالى: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ» ثم قال :
…\….
فَصلٌ في مَبادِئ التَّصَوُّف
ذَكرَ في هذا الَفصل عدَّةَ خِصالٍ، يَجب على المريد أن يَتَحَلَّى بها عند ابتدائِهِ في الطريق بعد أن يَتَخَلَّى عَن أضدادها، لِيَفيضَ عَليه بعد ذلك مِن بَحر المَعارف مَا لا عَينٌ رأت، ولا أذنٌ سَمعت، ولا خَطر عَلى قَلبِ بَشرٍ. فَيكون بُنيانُه مُؤَسَّسًا عَلى هُدًى من الله وقد قالوا:
“ أشرقَت بِدايتُه، أشْرَقَت نِهايتُه“.
ولَمَّا كانَ أول واجبٍ عَلى المُريد، أو نَقول عَلى المُكَلَّف من حيث هو، التَّوبة بَدَأ بها الناظم فَقال:
[brun]وَمَــبدَأ المُريد في ذا البَابِ * رُجوعُهُ لِقابِلِ المَتاب[/brun]
يَعني أنَّ المُريدَ يَجبُ عَليه -قَبلَ كلِّ شيءٍ- رُجوعُه إلَى الله تَعالى، وتَوبَتُه إليه، فَإنَّه يَقبلُ التَّوبَة عن عِباده، وقَد أَمَر بها فقال: “وتُوبُوا إلى اللهِ جَميعًا أيها المؤمنونَ لَعَلَّكم تُفلحونَ “. وقالَ، صلى الله عليه وسلم: ” تُوبوا، فَإنِّي أتوبُ في كلِّ يَومٍ سَبعينَ مَرَّةً”، وفي بعض الروايات: ” مائة مرة”.
والإجْماعُ على أنَّ التَوبَةَ واجبةٌ على كلِّ مُكَلَّفٍ، ولَو عبدًا، أو أنثى، أو كافرًا، مِن الذَّنب الكبير والصغير. وقيل: ” اجتنابُ الكَبائِر يُكَفِّرُ الصَّغائرَ “، ولا تَحتاج الصغائرُ للتَوبة لقوله تعالى:” إنْ تَجتَنبوا كبائرَ ما تُنهونَ عَنه نكفرْ عَنكم سَيِّئاتِكم ]“. وإلى ذلكَ أشارَ الإمام اللقاني في جَوهرة التوحيد فَقال:
[brun]
وباجْتِنابٍ للكَبائر تُغْفَر * صَغائِرُ وجَا الوُضو يُكَفِّرْ[/brun]
فَالتوبَة واجبةٌ عَلى المُكلَّف في جَميع أحوالِه بِالكتابِ والسنَّة والإجماع. ووجوبُها عَلى الفَور. ولا قَائلَ بِأنَّها تَجبُ عَلى التَّراخي، ومَن أخَّرَها فَهو عَاصٍ، تَجبُ عَلَيه التوبةُ من تأخيرها، لأنَّها مَعصية ثانيةٌ.
أمَّا حَقيقة التوبةِ فَهي النَّدم عَلى فِعل المنهيات، وتَركِ المأموراتِ، لِقَوله، صَلَّى الله عليه وسلم: ” النَّدمُ تَوبَةٌ “، ولكنَّها لا تَصح إلاَّ بِشروطٍ ثَلاثَة:
الأول: الاقلاعُ عَن المَعصية، وهذا في حَقِّ المُتلبّس بها حالَ التوبة، فإن تَابَ ولَم يُقلعْ عَن تلكَ المَعصية، فَلا تَصحُّ تَوبَتُه.
الثاني: العَزمُ عَلى عَدم العَود لِفعل المَنهيَّاتِ، فإن كانَ مُصِرًّا عَلى فِعل المَعاصي، فَلا تَصحُّ تَوبَتُهُ.
الثالث :تَلافي مَا أمكَنَه مِن الحُقوق المُتَعَلِّقَة به لِعباد الله، كَرَدِّ المَغصوب للمغتَصَبِ مِنه، وغَير ذلك فإن لَم يَرُدَّها، ولَم يَتدَاركْها، فَلا تَصحُّ تَوبَتُه.
وقيلَ: إنَّ التَّوبَةَ صَحيحَةٌ مَع النَّدَم وهَذا الشَّرطُ الذي هو رَدُّ المَظالمِ لأهلها أمرٌ واجِبٌ على المُكلف تَجبُ مِنه تَوبَةٌ أخرى.
قال العلامة ابن الجُزَي: في كتابه القوانين الفقهية: ومَراتِبها (أي التوبة) سبعة.
فَتَوبَة الكفار من الإشراك.
وتَوبَةُ المُخلصين من الذُّنوب والكَبائر.
وتَوبَةُ العُدول من الصَّغائر.
وتَوبَةُ السَّالكين مما يخامِرُ القلوبَ من العِلَل والآفات المُفسدات.
وتَوبَةُ العَابِدين مِن الفَتَراتِ (أي الضَّعف).
وتوبة أهلِ الوَرَعِ مِن الشُّبهات.
وتَوبة أهلِ المُشاهَدَة مِن الغَفلات”. اهـ.
ثمَّ قالَ :
[brun]كذا أداءُ ما عَلَيْهِ واجِبٌ[/brun]
يَعني: كَما يَجبُ عَلى المُريد في مَبدَئِه أن يَرجعَ إلَى اللهِ تَعالى، قابِلِ التوبة، كذلكَ يَجب عَليهِ أن يَكونَ مُؤَدِّيًا لِما وَجَبَ عَليه مِن الفَرائِضِ كَتَعَلُّمِ ما يَجبُ من التوحيدِ والفقه لِيُصَحِّحَ عَقيدتَه، وعبادَتَه، ويُؤَدِّيَ ما وَجَبَ عَلَيهِ مِن الصَّلاة والزكاةِ والصِّيامِ والحَجِّ، إن استَطاعَ إلَيهِ سبيلاً، بِمَعنَى أن يَكونَ عاملاً بالمَفروضات، لأنَّها أحبُّ الأعمالِ المُتَقَرَّبِ بها إلَى اللهِ لمَا في الحَديث القدسيّ: “[bleu]ما تَقَرَّبَ إليَّ عَبدي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افتَرَضته عَلَيه[/bleu]”. الحديث، وكَذلكَ يَقومُ بالنَّوافِل حَسبَما أمْكَنَه وتَيَسَّرَ لَه ثمَّ قال:
… *[brun]وبَعد ذا تأتِي لَه المَواهِب[/brun]
[brun]إن كان ذا خَوفٍ وشُكرٍ وَوَرَعٍ[/brun]*
[brun]وَصدقٍ أيضًا فاعلاً ما قَد شُرِعَ وزاهدًا فيما تَحويه العاجِلَة[/brun]*
[brun]من الأمور الفَانيات الزَّائلَة[/brun]
يَعني: وبعدَ أن يتوبَ إلَى الله تعالى، ويُؤَدِّيَ ما وَجَبَ عَليه من المفروضات، تَأتيه المَواهب اللدنيَّة، والعَطايَا الرحمانيَّة، لأنَّ مَن عَمِلَ بما عَلِمَ أورَثَهُ اللهُ علمَ ما لَم يَعلم. ويُشير لذلك قوله تعالى: ” واتَّقوا اللهَ ويُعَلِّمُكم الله“، فَقد قَرنَ تَعليمَه لِخَلْقِه بالتَّقوى، فَمَن اتَّقى اللهَ تَعالى، أفاضَ عَلَيْه من نِعَمِه الظَّاهرَة، وتَجَلِّياتِه الباطنَة.
ولمَّا كانَ العَمل بالواجبات، المُسَمَّى بالتَّقوى لا يَكمُلُ للمُريد غايَةَ الكمال إلا إذا كان مُتَحَلِّيًا بِخصال الكُمَّلِ مِن أهلِ اللهِ، قال: إن كَان ذا خوفٍ،…الخ. أيْ: تَأتي لهذا المريد المَواهبُ وتَفيضُ عَليه المَعارفُ إن كان مُتَحلِّيًا بهذه الصفات التي هي الخَوفُ منَ اللهِ تَعالى، لا مِن شيءٍ غَيرهِ. والخَوفُ من الله تَعالَى أساسٌ تُبنَى عَليه جميعُ المَحامد والخلال، فَينبَغي للمُريد أن يَكون ملازمًا للخَوفِ، كاسرًا جَناحَ الذلِّ، راهبًا من هَيبَةِ اللهِ، وقوَّة سُلطانهِ، وصَولَةِ قَهره حتَّى يَصيرَ مَعدِنًا للحكمَة، ومَظهرًا للنعمَة، ولذلكَ قَال صَلَّى الله عليه وسلم: ” رأسُ الحِكمَة مَخافَةُ الله “، ويَكفي في ذلك قوله تعالى: “هُدًى وَرَحمة للذين هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرهَبونَ “، وقوله تعالى: ” رَضيَ اللهُ عَنهم، وَرَضوا عَنه ذلك لِمَن خَشيَ رَبَّه “.
واعلَمْ أنَّه ممَّا يُلازمُ الخَوفَ ويُقارنُه، ولا يُفارقُهُ الرَّجاءُ.
وحقيقته: ارتياحُ القَلب إلى كَرَم المَرْجُوِّ، وَرُؤيَتِهِ، ولاَ بُدَّ للمُريد أن يكونَ لَه جَناحَا الخَوف والرَّجاء، لِيَقدرَ عَلى لطيرانِ في مَلَكوتِ الله، عَزَّ وجَلَّ، ولذلك قَال أبو عليٍّ الروزباري: “الخَوفُ والرَّجاء كَجناحَيْ الطَّائِرِ، إذَا اسْتَوَيَا استَوى الطائرُ وتَمَّ في طيرانِه.
ومُلازَمَة الخَوف تَدعو للاتِّصافِ بالعُبوديَّة، وفَضيلَةُ الرَّجاء تُزَيِّنُ المُريدَ بالحريَّة. والعامَّة يَرجونَ كَرَمَ اللهِ وفَضلَه، والخاصَّة يَرجون وَجهَه وجَمالَه، كما أنَّ العَامَّة يَخافونَ مِن عَذابِهِ وأليم عِقابِهِ، والخَاصَّة يَخافونَ من قَطيعَتِهِ وسَدل حِجابِهِ لأنَّ عقابَ العامَّة بالعَذاب، وعقابُ الخاصَّة بالحِجاب.
ومِنها الشكرُ للهِ تَعالى على السرَّاءِ والضَّرَّاء، فالسرَّاءُ نِعمَةٌ ظاهِرَةٌ والضَّرَّاء نِعمَةٌ باطنَةٌ، لِما يَتَرَتَّب عَليه من الأجر، وقد قالَ، صلَّى الله عليه وسلم: ” إنَّ عِظَمَ الجَزاء مَع عِظَمِ البَلاء، وإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ إذا أحَبَّ قومًا ابتَلاهم، فَمن رَضيَ فَله الرِّضا، ومَن سَخِطَ فَلَهُ السُّخط . وللهِ دَرُّ القائل:
اذا مَسَّ بالسَّرَّاء عَمَّ سُرورُها * وإن مَـــسَّ بالضَرَّاء يَعقُبها الأجْرُ
فَما مِنهما إلاَّ لَه فِيه نِعمَـــــــةٌ * تَضيقُ بها الأوْهامُ والسرُّ والجَهرُ
فَالشكرُ لا بُدَّ منهُ للمُريد، لأنَّه سَبَبٌ لِقُوة الحالِ، وزيَادَة التَوالي، وقد قال تعالى: ” لَئِنْ شَكَرتُم لأزيدَنَّكُم ” وما ألْطَفَ قَولَ بَعضهِم:
لَئِنْ شَكَـــــرتك لأزيدَنَّكُم * مَقــــــالَةً اللهُ الذي قَالَها
فَالكُفرُ بالنِّعمَة يَدعو إلَى * زَوالِها والشُّكرُ أبْقَى لَها
وفِي الحَديث القدسي: ” أهْلُ ذِكْرِي أهْلُ مُجالَسَتِي وأهْلُ شُكْرِي أهْلُ زِيارَتِي “، اه.
ومِنها الوَرَعُ، وحَقيقَتُه: تَركُ الشُّبهاتِ خَوفَ الوُقوعِ في المُحَرَّماتِ، وهو أجْمَلُ وَصْفٍ يَتَّصفُ به المريد. والوَرَعُ عندَ الخاصَّة تَركُ كلِّ مَا يُؤَدِّي إلَى وُقوعِ النَّظَر عَلى الغَيرِ.
وقيلَ: أوْحى الله، تعالى، لِموسى، عَليهِ السَّلام: لَم يَتَقَرَّبْ إلَيَّ المُتَقَرِّبونَ بِمثلِ الوَرَعِ والزُّهْدِ.
وقَد كان بَعضُ العارفين يقولُ: اتَّقوا اللهَ ومَوِّتُوا أنْفُسَكُمْ بِالوَرَعِ.
ومنها الصِّدقُ: فَيَلزَمُ المريدَ، أوْ نَقولُ المُكَلَّفَ مِن حَيثُ هو، أنْ يَتَحَلَّى بِه ويَلتَزمَهُ في جَميعِ الأقْوالِ والأفْعال، “[rouge]فَإنَّ الصِّدقَ يَهدي إلى البِرِّ[/rouge]“. ومَن تَجَمَّلَ بِفَضيلَةِ الصِّدقِ مَع اللهِ، ورَسولِهِ، ثمَّ أستاذِهِ وإخوانِهِ، ثمَّ مَع جَميعِ المُؤْمنينَ، زادَهُ اللهُ إيمانًا ويقينًا وقُوَّةً وتَمكينًا. ويَكفي في ذلك قَولُه تعالى: “[rouge]لِيَجزِيَ اللهُ الصَّادِقينَ بِصِدْقِهِمْ[/rouge]“.
وقولُه:
[brun]فَاعِلاً ما قَدْ شَرَعَ[/brun]
أيْ: يَكونُ المُريدُ فاعِلًا ما شَرَعَهُ اللهُ لَهُ، وفَرَضَهُ عَلَيْهِ، بِمَعنى: أنَّهُ يَتْرُكُ مَا لَمْ يَرِدْ في الشَّريعَةِ الغَرَّاءِ. وتَقَدَّمَ هذا المَعْنَى في قَولِهِ:
[brun]كَذا أدَاءُ ما عَلَيْهِ واجِبٌ.[/brun]
ومنها الزُّهْدُ: وهَو عَدَمُ تَعَلُّقِ القَلْبِ بالفانِياتِ، وهو عَلَى أقْسامٍ:
– زُهدُ العَوامِّ في المَكروهِ والحَرامِ.
– وزُهْدُ الخَواصِّ في تَركِ الزَّخارِفِ، ولَو كانَتْ مُباحَةً دُنْيَويَّةً أو أخْرَويَّةً.
– وَزُهْدُ خَاصَّةِ الخَاصَّةِ في غَيرِ اللهِ تَعالَى، فَلا يَطْلُبونَ إلاَّ اللهَ، ولا يَلتَفِتونَ لِسِواهُ.
وقيلَ:
لَيسَ لِي فِي غَيْرِ ذاتِكَ مَطْلَبٌ * فَلا صورَةَ تُجْلَى ولا طُرفَةَ تُجْنَى
والزُّهْدُ عَلى كلِّ حَالٍ صِفَةُ الكامِلينَ، وزينَةُ المُتَّقينَ، وهو يُؤَدِّي إلَى مَحَبَّةِ اللهِ، ومَحَبَّةِ عِبادِهِ، لِقَولِهِ، صَلَّى عَلَيه وسَلَّم: ” ازْهَدْ في الدُّنيَا يُحِبُّكَ اللهُ وازْهَدْ فيما في أيْدِي النَّاسِ، يُحِبُّكَ النَّاسُ .
ومَن لَم يَتَجَمَّلْ بِالزُّهْدِ، بِأنْ تَسَرْبَلَ بالرَّغْبَةِ في الفانِياتِ تَكونُ غَايَتُهُ أنْ تَوَجَّهَ إلَى هَذِهِ الدُّنيا التي لا تُساوي عندَ اللهِ جَناحَ بَعوضَةٍ. ويَكفينَا أسوَةً سيِّدُ الوُجودِ، صَلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم، فَقَد عُرِضَتْ عَلَيْهِ الجِبالُ الشمُّ لِتَكونَ لَهُ ذَهَبًا فَأعْرَضَ عَنْها، وَزَهِدَ فيها وهو القَائِلُ: “[bleu]ولاَ تَنافَسُوا فِي شَيْءٍ، أنْتُمْ عَنْهُ غَدًا زائِلونَ[/bleu]”، فَهَل يَجْمُلُ بِالمُريدِ أنْ يَتَشَبَّثَ بِهَذِهِ الدَّارِ العَاجِلَة ومَا تَحويهِ من الأمورِ الفَانياتِ الزَّائِلَةِ، كَلاَّ ! بَل الوَاجِبُ عَلَيْهِ أنْ يُرفَعَ إلى مَا هو أعْلَى وأجَلُّ وأغْلَى. ثُمَّ قَالَ :
كَذا الرِّضا بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ * مَعَ التَّسليمِ للإلَهِ المُقْتَدِرِ
يَعنِي: كَذلكَ يُطلَبُ مِن المُريدِ أن يَكونَ رَاضِيًا عَن اللهِ تَعالَى فيمَا قَدَّرهُ عَلَيهِ، وقَضَاهُ، ومُسَلِّمًا لَهُ في كلِّ فعلٍ، وإنْ خَالَفَ أغْرَاضَهُ ومُرادَهُ، فَيَغيبُ عَنْ مُرادِهِ فِي مُرَادِ رَبِّهِ، فَما أرادَهُ اللهُ فَهْوَ خَيْرٌ، حَتَّى يَفرَحَ قَلْبُهُ بِالبَلاَءِ، كَما يَفْرَحُ بالعافِيَةِ، ويَرَى الكلَّ صَادِرًا مِن الرَّحمَن الرَّحيم، الفَعَّالِ لِما يُريدُ. ولذلكَ قيل: إنَّ الرِّضَا هوَ سُرُورِ القَلبِ بِمُرِّ القَضَاءِ. وقد قَال أبو ذَرٍّ الغِفَاريِّ: ” الفَقْرُ أحَبَّ إلَيَّ مِن الغِنَى، والسُّقْمُ أحَبُّ إلَيَّ مِنَ العافيَةِ “.
وإنْ كانَ أعْلَى الرِّضا أنْ لا يَختَارَ الإنسانُ لِنَفْسِهِ شيئًا، فَإنْ تَجَلَّى عَلَيْهِ بالعافِيَةِ فَنَعَمْ، وإن تَجَلَّى عَلَيْهِ بالبَلاءِ فَيَا حَبَّذَا. ولذلكَ لَمَّا حُكِيَ للحَسَنِ [[الحسن بن علي بن أبي طالب ولد سنة 3 للهجرة وتوفي سنة 50 للهجرة، وقَبْرُه بالبَقيع وخِلافَتُهُ ستة أشهرٍ. ]] بنِ عَلِيٍّ بنِ أبي طالِبٍ، قولُ أبي ذَرٍّ المُتَقَدِّم قال: رَحمَ اللهُ أبَا ذَرٍّ، وأمَّا أنَا فَأقولُ: مَنِ اتَّكَلَ عَلى حُسْنِ اخْتِيارِ اللهِ لَهُ، لَم يَتَمَنَّ أنَّهُ في غَيرِ الحَالَةِ التي اختَارَ اللهُ لَهُ؟ فَإنَّ مَن أرَادَ مُرادَ اللهِ، أرَادَ اللهُ مُرَادَهُ. وقَد قال تَعالى، في بَعضِ كَلامِهِ القُدْسِيِّ: “[bleu]ومَن أرَادَ مُرادِي أرَدْتُ ما يُريدُ[/bleu]”. رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ [[الامام احمد بن حنبل، ولد سنة 164 ومات سنة 241 وصلى عليه نحو تسعمائة ألف نسمة وأسلم يوم موته نحو عشرين ألفا ودفن ببغداد. وولد أبو حنيفة بالأنبار سنة 80 للهجرة ومات بالسجن لتمنعه من القضاء سنة 150 ببغداد.]] ، في مُسْنَدِهِ من حديثٍ طَويلٍ، نَقَلَهُ ابنُ القَيِّم [[محمد بن بكر بن أيوب الدمشقي المعروف بابن القيم الجوزية، ولد سنة 651 للهجرة وتوفي سنة 751 للهجرة .]] ، في كتابِهِ: مَدارِجُ السَّالكينَ.
واعْلَمْ أنَّ الرِّضا فيهِ رَاحَةُ قَلْبِ المُريدِ من حَمْلِ أثْقال الاعْتِراضِ عَلَى الفَعَّالِ لِما يُريدُ، فَإذا صَارَ الرِّضَا حَالاً مِن أحْوالِهِ، لَم يَر مِنَ اللهِ مَا يَكْرَهُ، ولَمْ يُصبْهُ مَا يُزْعِجْهُ، لأنَّهُ مَهْمَا نَالَهُ شَيءٌ أرَادَهُ اللهُ، إلاَّ وكَانَ ذَلكَ مُرادَهُ ومَقصودَهُ، بِخلافِ السَّاخِطِ عَن اللهِ، ولذلك قال عَليٌّ بنُ أبي طالبٍ، كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: [bleu]مَنْ جَلَسَ عَلَى بِساطِ الرِّضَا لَم يَنَلْهُ مِن اللهِ مَكْروهٌ أبَدًا، وَمَن جَلَسَ عَلى بِساطِ السُّؤالِ لَم يَرضَ عَن اللهِ في كلِّ حَالٍ[/bleu]”. هذا وإنَّ الرِّضا بالقَضاءِ وَاجِبٌ عَلى كلِّ مُؤْمِنٍ، لأنَّه فِعلُ الباري، جَلَّ شَأنُهُ، وأمَّا الرِّضا بِالمَقْضيِّ، فَهو مَقامُ الخاصَّةِ مِن المُرَبِّينَ. اللهمَّ انْظُمْنَا في سِلْكِهِمْ، وافْنِنَا عَن مُرادِنَا في مُرادِكَ، وَرَضِّنَا بِما أنْتَ فَاعِلٌ، ولا تَطْرُدْنا عَن بابِكَ يا أرْحَمَ الرَّاحمينَ، يا رَبَّ العَالمينَ ثم قال:
[brun]حَمْلُ الأذَى والصَّبرُ للبَلاءِ مَعَ * تَعْظِيمِهِ لِمَا لَه قَدِ اجْتَمَعَ[/brun]
أمَّا كَفُّ الأَذى فَهو واجِبٌ عَلى كلِّ مُسلِمٍ. وأمَّا حَمْلُ الأَذَى فَهو مِن أجْمَلِ الخِصالِ، وأشْرَفِ الخِلالِ. فَيَنْبَغي للمُريدِ أنْ يَتَحَلَّى بهِ كَما يَتَحَلَّى بِجَميلِ الصَّبْرِ عَلى كلِّ بَلاءٍ أصابَهُ، سَواءً أتَاهُ مِن اللهِ تَعالَى مُبَاشَرَةً، أوْ بِواسِطَةِ عَبْدٍ مِن عَبيدِهِ الذينَ لاَ تَأثيرَ لَهم. فَحَمْلُ الأذى مَطلوبٌ ومُرَغَّبٌ فيه على كلِّ حالٍ. وقَد قالَ تَعالى، تَرغيبًا في العَفْو، الذي هُو مِن لَوازِم حَمْل الأذَى: “ وإنْ تَعفُوا وتَصفَحوا وتَغْفِروا فإنَّ اللهَ غَفورٌ رَحيمٌ “، فإنَّ جِماعَ حُسنِ الخُلق كَفُّ الأذَى، وحَمْلُ الأذَى، وبَذْلُ المَعروفِ، وإلَى ذلكَ يُشيرُ قَولُهُ تَعالَى “ والكاظمينَ الغَيظَ والعافينَ عَنِ النَّاسِ واللهُ يُحبُّ المُحسنينَ “، وقَالَ، صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم، في الصَّبْر عَلى البَلاء: “إذا أرادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الخَيرَ، عَجَّلَ لَه العُقوبَةَ في الدُّنْيا”. وقالَ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّم: “لايَزالُ البَلاءُ بالمُؤمِنِ أو المُؤمنَةِ في نَفسِهِ ومَالِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى يَلقى اللهَ، ومَا عَليه مِن خطيئَةٍ”.
وأخْبَرَ في الشَّطرِ الأخير أنَّ المُريدَ يَجبُ عَليه أن يُعَظِّمَ ما اجتَمَعَ لأجْلِهِ مَع إخْوانِهِ مِن ذِكْرٍ ومُذاكَرَةٍ ومَحَبَّةٍ، فإنَّ ذلكَ من حُرماتِ الله “ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرماتِ اللهِ فَهو خَيرٌ لَه عندَ رَبِّهِ “. ثمَّ قال:
[brun]
مَحَبَّةُ الإخْـوانِ شَـرْطٌ لازِمٌ * تَعظِيمُهُمْ تَزكُو بِهِ المَكــــــــــارِمُ
إذْ كلُّ خَيرٍ في اتِّباعِ فِعْلِهِم * فَاستَغْنِمِ الأوقَاتَ واحْضَرْ جَمْعَهُمْ [/brun]
يَعني أنَّ مَحَبَّةَ الإخْوانِ المُجتمعينَ عَلى ذِكرِ اللهِ والمُذاكَرَةِ في اللهِ، أيْ: الإخْوان في الطَّريق، شَرطٌ لازِمٌ عَلَى كلِّ مُريدٍ. فإنَّهُم إخوانُه في أصْلِ الإيمان، والمُؤمنونَ إخوَةٌ، وخِلاَّنُه في مَقامِ الإحْسان، فإنَّ الايمانَ يَزيدُ بِمَحَبَّة الإخوانِ في اللهِ، والإحسانُ يَتَقَوَّى بِمَوَدَّتِهِمْ، فَهُمْ أهْلُ المَحَبَّة في الله، الذينَ يُنادِيهِمُ الحَقُّ يومَ القيامَة: أينَ المُتَحابُّونَ في اللهِ؟
وقَد قالَ تَعالى، في بَعض كلامِهِ القُدسيِّ: “ وَجَبَت مَحَبَّتي للمتحابين فيَّ، والمُتزاورينَ فيَّ، والمُتَباذِلينَ فِيَّ “.
فَمَحَبَّتُهم تُثمرُ المَوَدَّةَ والكَرَمَ والسَّخاءَ والحَنانَ والعَفْوَ والصَّبَر. وجميعُ الأوصاف الجَميلَة تَتَرَبَّى بِمَحَبَّة الفُقَراء وتَعظيمِهم ولذلك قال: “ تعظيمهم تَزْكُو به المَكارِمُ ” أي تَزيدُ وتَعظُم بِهِ الأخلاقُ الكَريمَةُ، وتَزولُ بمُلازَمَتِهِمْ الأوصافُ الذَّميمةُ، بِخلافِ مَن يَنظرُ إلى إخْوانِهِ بعَيْن الحَقارَةِ والازدِراء، فإنَّه لا يَلبَثُ أن يُسْلَبَ ويُطرَدَ من جَميعِ أهلِ اللهِ.
ولذلك قال أستاذُنا في بَعضِ مُوشَّحاتِه، رَضيَ الله عَنه:
مَن لا فَنى في إخوان * خَالي إيمان * ذاكَ ضَيَّع أزْمـــان * يا بابا
ذاكَ حبُّ وإحســــــان * حــــدّ لسان * جاحَ عَرس وجنان * يا بابا
فَيَلزَم المريدَ أن يَكونَ مُقتَدِيًا بهم، تابعاً لهم فيما يقولون ويَفعلونَ، ليكتسبَ بذلكَ محاسنَ الأخلاقِ ومَحَبَّة الخَلاَّقِ، وأنْ لا يَتَخَلَّفَ عَن جَمْعهم لأنَّهُ يَتَدَفَّقُ مُذاكَرَةً ونَصيحةً، فَاستَغنم أيُّها المُريدُ جَمعهَم، فَيَالَها من غَنيمَةٍ عَظيمةٍ، لَيسَ لها في الأثمان قيمة، فإنَّهُم يَنصحونَكَ بِأقْوالِهمْ وأفعالِهم، وأحْوالِهم، فَتَكسبَ منهم سَنِيَّ الأحْوال، وجميلَ الخِصال، ولذلك قال أبو مَديَنَ [[ أبو مدين اسمه شعيب، اصله أندلسي توفي بحوز تلمسان ودفن برابطة العباد بتشديد الباء الموحدة قرية تقرب من تلمسان بميل .]] ، رَضيَ الله عنهُ:
فَاستَغنِم الوَقتَ واحْضَرْ دائِمًا مَعَهم * واعْلَم بأنَّ الرِّضَا يَخُصُّ مَن حَضَرَا
هَذا، وقَد تَكَلَّمَ في الأستَاذِ شرذِمَةٌ بما شاءُوا، وشاءَ لَهُمُ الهَوى، وَرَمَوْهُ بما هو بَريءٌ مِنهُ، وبَعيدٌ عَنهُ. وتلكَ سُنَّةُ اللهِ في أحْبابِهِ، فَكلُّ واحدٍ منَ المُقَرَّبينَ لا بدَّ أن يَقوم عَلَيهِ في زَمانِهِ طائِفَةٌ، ولكنَّ اللهَ يَنصُرُ مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ ويُتِمَّ نورَهُ. غَيرَ أنَّ أكثرَ المُنتَقدينَ على الأستاذِ رَجَعوا عَمَّا كانُوا عَلَيهِ، واعتَرَفُوا بِفَضلِهِ، ومِنهُم مَن انتَسَبَ لِطَريقهِ، بما أنَّ إنْكارَهُ أوَّلاً مَنْشَؤُهُ التَّسرُّعُ وعَدَمُ التَّثَبُّتِ.
ومِن فَضل اللهِ ومِنَّتِهِ أنَّ الطَّبَقَةَ العُليَا مِن عُلمَاءِ الأمَّةِ وصُلحائِهَا لَم يَقُمْ وَلَو واحِدًا مِنهُم معارضًا للأستاذِ لِعُلوِّ مَدارِكِهُمْ وسَعَةِ اطِّلاعِهم وقَد قالوا: “ومَن اتَّسعَ عِلمُهُ قَلَّ إنكارُهُ” . ثمَّ قال:
[brun]والذِّكرُ عنوانُ القَبول يا فَتَى * فاذْكُر كَثيرًا حَسَب أمرٍ قد أتَى[/brun]
أخْبَرَ أنَّ ذكرَ اللهِ تَعالى عُنوانٌ وعَلامَةٌ عَلى قَبولِ المُريد لأنَّ الذكرَ مَنشورُ الوِلايَة، كَما قَالَ أبو الحسن الشاذلي [[أبو الحسن الشاذلي نسبة إلى الشاذلة ولد بقؤية من قرى غمارة قريبة من سبتة بالمغرب الأقصى سنة 539هجرية ، وتوفي بحميثرة من صعيد مصر سنة 656 هجرية.]] ، رَضيَ الله عنه،: “فَمن أُعْطِيَ الذِّكرَ فَقد أعطِيَ الوِلايَة”، فَبِالذِّكر يَخرُج المريدُ من الظُّلمات إلى النُّورِ أي: من ظُلماتِ الغَفلَة إلى نُور الحُضور، وتُشفى بَعدَ مَرضِها الصُّدورُ. والغافِل عَن الذِّكر يَكونُ الشَّيطانُ قَرينُهُ. “ومَن يَكن الشيطانُ لَه قَرينًا فَساءَ قرينًا”. وما ألْطَفَ قولَ بَعضِهم:
إذا مَرِضْنا تَداوَيْنَا بِذِكرِكم *** ونَترُكُ الذِّكرَ أحْيانًا فَنَنْتَكِسُ
فَاذْكُر أيُّها المُريدُ كثيرًا حَسبَما أمَرَ اللهُ تَعالى، فَقد رَغَّبَنا في كتابِهِ القَديم في غَير ما آيَةٍ، ورَتَّبَ على كثرة الذِّكرِ الأجرَ العظيمَ من ذلك قوله تعالى: ” يَا أيُّها الذينَ آمَنوا اذْكُروا اللهَ ذِكْرًا كَثيرًا وَسَبِّحوهُ بُكرةً وأصيلاً، هو الذي يُصلِّي عَلَيكم وملائكته لِيُخرجَكم من الظلمات إلى النور “. وقوله تعالى: “اذكُروني أذْكُركم “، فَقد جازَى الذاكرينَ لَه بِذِكرِهِ لَهم، وكَفاهَا عَطِيَّةً ومُجازاةً. ومنها قَولُه: ” والذاكرينَ اللهَ كَثيرًا والذاكرات أعَدَّ الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً “. وغَير ذلكَ من الآيات الدالَّة عَلى فَضل الذِّكرِ والتَّرغيب فيه التي منها قوله تعالى: “واذْكُروا اللهَ كَثيرًا لَعَلَّكم تُفلحونَ”.
وأمَّا الأحاديثُ التي وَرَدَت في فَضل الذِّكْر فَقد غَصَّت بها كُتُبُ الحَديث الصِّحاح، منها ما رَواهُ مَالك [[مالك بن أنس إمام دار الهجرة ، أصله من قبيلة ذي أصبح ولد سنة 90 هجرية وتوفي بالمدينة سنة 179 هجرية ودفن بالبقيع]] في مُوَطَّأه: “ألاَ أخْبِرُكم بِخَير أعمالكم وأرْفَعِها في دَرَجاتِكم، وأزْكاها عند مَليكِكُمْ، وخيرٌ لَكم من إعْطاء الذَّهَبِ والوَرِقِ، وخَيرٌ لَكم من أن تَلقَوْا عَدُوَّكم فَتَضربوا أعناقَهُمْ ويَضربوا أعناقكم قالوا: بلى. قال: ذِكرُ اللهِ تَعالى”.
ومنها قَولُه، صَلَّى الله عَلَيهِ وسلَّم، فيما يَحكيهِ عَن رَبِّهِ: “مَن شَغَلُهُ ذِكْري عَن مَسأَلَتِي أعْطَيْتُهُ أفْضَلَ ما أعْطي السَّائلينَ”. ومِنها قَولُهُ في الحَديثِ القدسيِّ: “يا عَبدِي ! اذكُرْني بَعدَ الصُّبحِ سَاعَةً، وبعدَ العَصر سَاعَةً، أكْفِكَ ما بَينَهما”. ومنها قَوله في الحديث القدسيِّ أيضًا “أنا عندَ ظَنِّ عَبدي بي وأنا مَعَهُ حينَ يَذكرُني. إنْ ذَكَرني في نَفسه ذكرتُهُ في نَفسي، وإنْ ذَكَرني في مَلأٍ ذَكَرتُهُ في مَلأٍ خَيرٍ منهُ، وإنْ تَقَرَّبَ منِّي شِبْرًا تَقَرَّبتُ منهُ ذراعًا، وإن تَقَرَّبَ منِّي ذِراعًا تَقَرَّبتُ منهُ باعًا وإن أتانِي مَاشيًا أتَيْتُه هَرْوَلَةً”.
أعْظَمُ بابٍ أنتَ دَاخِلُهُ * لِله فاجْعَل لَه الأنفاسَ حُرَّاسًا
وفي كتاب القوانين الفقهية للعَلاَّمَة ابن جُزيء: “الذِّكرُ أنواعٌ كَثيرة كالتهليل والتكبير والتسبيح والتحميد والحَوقَلَة والحَسبَلَة والبَسملة وأسماء الله تعالى كلها، والصَّلاة على رَسولِهِ، صَلَّى الله عليه وسلم. ولكلِّ ذِكرٍ مَعنًى وفائدَةٌ مَخصوصَةٌ تُوصِلُ إلَى مَقامٍ مَخصوصٍ، والمُنْتَهى إلى الذِّكرِ الفَرد وهو قولكَ: الله، وقد قيل: هو اسمُ اللهِ الأعْظَم.
وللنَّاسِ في الذِّكر مَقصدَان: فَمَقْصَد العامَّة اكتسابُ الأجور. ومَقصَدُ الخاصَّة التَّرَقِّي بالحُضور.
” وكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسنى “، وبَينَهُما ما بَينَ السَّمَاء والأرض. فَفَرقٌ بَينَ مَن يَطلبُ حظَّ نَفسه، وبَينَ مَن يَطلبُ مُجالَسَةَ رَبِّ العَالمين، لِقَوله، جَلَّ وعَزَّ: ” أنا جَليسُ مَن ذَكَرنِي “. على أنَّهُ يَحصل في ذلك اكتسابُ الأجورِ، ونَيْلُ كلِّ مَأمول من كلِّ مَحذورٍ، ولذلكَ كانَ الذِّكرُ أقرَبَ الطُّرقِ المُوصلَة إلى الله تَعالَى. قالَ بَعضُهم: مَن أعْطَاهُ اللهُ الذِّكرَ فَقَد أعْطاهُ مَنشور الولاية”. اه.
ثمَّ انتقلَ للكلام على نهايَةِ التَّصَوُّف أي: نَتيجَتُه وثَمرَتُهُ التي هي الغايَة المَطلوبَةُ للسَّعادَة العظمى وهي الفناء في عينِ التوحيدِ، والاستغراقُ في بِحارِ التَّنزيهِ والتفريد فَقال: